الرد على أصحاب بدعة المولد

بسم الله الرحمن الرحيم

الرد على أصحاب بدعة المولد

الحمد لله الذي أمرنا بالاتباع، ونهانا عن الابتداع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في العبادة، كما لا شريك له في الخلق والإبداع، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله ليتبع ويطاع، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسائر الأتباع، وسلم تسليماً كثيرا... أما بعد:

 عباد الله : لقد كانت الخليقة على الحنيفية السمحة، الإسلام قد عمهم، ونظم حياتهم، وكما هي سنة الله في الناس إذا انقطع الوحي عنهم، جهلوا وظلوا، كالأرض إذا انقطع عنها الغيث ؛ أمحلت وأجدبت. فعاشت البشرية في ظلام مطبق ؛ إذ سادة الوثنيات والخرافات، والعصبيات والقبليات، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الحقيقة بقوله : «إن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب …» وإن من سنن الله تعالى في الكون : أن الفرج يكون بعد الشدة، والضياء بعد الظلام، واليسر بعد العسر. وفي هذه الظروف أخذت تباشير الصباح تلوح بقرب انبثاق الرسالة المحمدية.

فولد النبي صلى الله عليه وسلم وشب على الأخلاق الفاضلة، والسيرة الحسنة، وبعثه الله تعالى على رأس الأربعين من عمره. فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، بدأ بدعوته سراً، فتوالى إسلام من أكرمهم الله بالإسلام، فلما نزل عليه ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ وأُمِر صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة، صعد على الصفا ونادى بأعلى صوته قائلاً : «وا صباحاه. وا صباحاه . وأقبل الناس نحوه زرافات ووحدانا، حتى امتلأت ساحة الصفا ، فقال صلى الله عليه وسلم : يا معشر قريش : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح الجبل، تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا : نعم. فقال : إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، أنقذوا أنفسكم من النار» فقام أبو لهب فقال : تباً لك. أما دعوتنا إلا لهذا. وأظهرت قريش له العداء، وأصبحوا له خصوماً ألداء، وآذوه أشد أنواع الأذى،فهاجر إلى المدينة هو وأصحابه. فجاء الفرج وحان النصر،.ولما وجد صلى الله عليه وسلم الدار والمنعة، شرع الله له جهاد الكفار الذين يصدون عن سبيله فأظهره الله عليهم، وأيده بنصره وبالمؤمنين، فما هي إلا أعوام قليلة حتى عاد إلى مكة فاتحاً معززاً منصوراً، تحيط به جيوش التوحيد، وكتائب الإسلام، ودخلها مكبراً لربه مهللاً، خاضعاً لله شاكراً. فأعاد صلى الله عليه وسلم للحنيفية السمحة صفاءها وضياءها، وأماط عنها ما علق بها من أوضار الجاهلية وضلالاتها، وجمع الله به الأمة بعد شتاتها.

ثم عاد إلى المدينة فأتم الله عليه النعمة، وأنزل عليه ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾.

 ثم فخرج صلى الله عليه وسلم ذات يوم وخطب.في الناس، فنعى نفسه وهم لا يشعرون. إذ صعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: " إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله ". عند ذلك بكى أبو بكر، فعجب الناس من بكائه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمهم.

وقبل الوفاة بثلاث أخذ المرض يثقله، ويمنعه من الخروج للصلاة بالناس فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» . وظل أبو بكر يصلي بالناس تلك الأيام، وانقطع عن أصحابه بقية يوم الخميس، والجمعة والسبت والأحد. وبينما هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين، وأبو بكر يصلي بهم، لم يفجأهم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكشف ستر حجرة عائشة فينظر إليهم وهم صفوف في الصلاة، ثم يتبسم، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، ظناً منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهم المسلمون أن يفتنوا في صلاتهم ؛ فرحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم .. فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.

وعند الضحى دخلت عليه ابنته فاطمة فلما رأت ما بأبيها من الوجع الشديد قالت : واكرب أبتاه. فقال صلى الله عليه وسلم : «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» وكان بين يديه ركوة ماء، يدخل يديه فيها فيمسح بهما وجهه ويقول : «لاإله إلا الله إن للموت لسكرات» وبعد هذا ثقل عليه المرض فأصبح لا يتكلم . وفي اللحظات الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم رفع يده وأصبعه وشخص ببصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، وقال : «مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى» كررها صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وكان هذا آخر ما تكلم به، ثم مالت يده ولحق بالرفيق الأعلى. فقالت فاطمة : "يا أبتاه، أجاب رباً دعاه، يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه".

ولما دفن قالت: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب.

قال ابن رجب : ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم . اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية ا.هـ قال أنس : لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي توفي فيه أظلم فيها كل شيء، وقال : وما نفضنا أيدينا عن التراب، وإنا في دفنه حتى أنكرنا قلوبنا. فإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أدخلنا مدخل نبينا صلى الله عليه وسلم ، وأوردنا حوضه، واحشرنا معه، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ….

لخطبة الثانية:

الحمد لله :

عباد الله: إن خير هدي ينتهجه المفلحون، وخير طريق يسلكه الصالحون، هو هدي هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، فلا هدي أحسن من هديه، ولا طريق أقوم من طريقه. وهيهات هيهات أن يأتي الخلف في أعقاب الزمن بخير مما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين.

ومن غربة الدين أن تلتصق به المحدثات، وتواكبه الضلالات. والسني الحصيف، يتجه نحو المعين الصافي، يشرب منه فيرتوي، ويقتبس من نوره فيهتدي، وإن النور لا يتم إلا بهدي كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على فهم سلف هذه الأمة وعلمائها.

وكل سبيل غير صراط الله، عليه شيطان يدعوا إليه ؛ فيحببهم في البدعة، ويبعدهم عن السنة، وللشيطان في ذلك صولات وجولات، إما بأن يعتقد العبد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله، من البدع المحدثة.

وفي هذه الأيام أذيع ويذاع في بعض الإذاعات، ويشاهد عبر القنوات، ويكتب في بعض الصحف والمجلات، في معظم البلاد الإسلامية، أحداث احتفالات تجري في سرادقات، تقام لإحياء ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهذه بدعة منكرة، ما أنزل الله بها من سلطان. وإنما أُحدث فعلها في القرن السادس على أيدي الخلفاء الفاطميين، الذين هم من أخبث الفرق التي تنتسب إلى الإسلام إن لم تكن أخبثها، فوسعوا على الناس فيها، وصرفوا الأموال الطائلة عليها، فأقبل الناس إليها، وصاروا ينتظرونها كل عام، وهكذا توالت السنون، وتعارف الناس عليها، حتى صارت عقيدة يموت عليها الكبير، وينشأ عليها الصغير، ثم انتهت دولة بني عبيد، ولكن الاحتفال بها لم ينتهي.

عباد الله: إن البدع والمحدثات ليست طريقاً لإظهار الحب والتعظيم، بل الحب والتعظيم إنما يكون في الاتباع.قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ما يحدثه الناس إما مضاهاة للنصارى، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له، من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، وعدم المانع، ولو كان خيراً محضاً أو راجحاً كان السلف أحق به منا ؛ فإنهم كانوا أشد محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كانت محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته، واتباع أمره وإحياء سنته ظاهراً وباطناً، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان أ.هـ

عباد الله: لما انتشرت هذه البدعة، وكثر الداعون إليها، كان لزاماً بيان أصلها وحكمها؛ حتى لا يغتر بها، وحتى يكون المسلم على بصيرة منها. فإنه لما كانت الأمة حريصة على تنفيذ شرع الله، متمشية في عباداتها ومعاملاتها وسياساتها، على ما كان عليه قائدها وهاديها محمد صلى الله عليه وسلم كانت هي الأمة الظاهرة الظافرة المنصورة، ولما حصل فيها ما حصل من الانحراف عن هذا السبيل، تغير الحال وجُعل بأسهم بينهم، وسُلط عليهم عدوهم، وكانوا غثاء كغثاء السيل، فتداعت عليهم الأمم، وفرقتهم الأهواء، ولن يعود لهذه الأمة مجدها الثابت وعزها المستقر حتى تعود أفراداً وشعوباً إلى دينها الذي به عزها، وتطبقه قولا وعملا، وعقيدة وهدفا، على ما جاء عن رسول الأنام، بفهم أصحابه الكرام.