التهافت على المساهمات

بسم الله الرحمن الرحيم

التهافت على المساهمات

 أما بعد: فإن الحياة مليئة بالمحن والمتاعب، والبلايا والشدائد، إن صفت يومًا كدّرت أيامًا، وإن أضحكت أبكت، فقر وغنى، عافية وبلاء، صحّة ومرض، عزّ وذل ، فهي لا تدوم على حال ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ يبتلي الله عباده بالسراء والضراء، والنعمة والبأساء، والصحة والمرض، والغنى والفقر، يقول سبحانه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ .

خيرُ العطَا، الإيمان والتّقى، ولا بأس بالغنى لمن اتَّقى، والصّحة لمن اتّقى من الغِنى، وما قلَّ وكفى، خير مما كثُر وألهى، وما يغني عن الظالم الثرا، وما يغني عنه مالُه إذا تردَّى، ليس الغِنى عَن كثرةِ العَرَض، ولكن غنى النفسِ هو الغِنى، ومن اشتدَّ حِرصه أوشَكَ وقصُه، ومن مدَّ عينَيه، إلى ما ليس في يدَيه، أسرعَتِ الخيبةُ إليه، وتمكَّنت الحزونةُ عليه، ورسوله الهدى صلى الله عليه وسلم يقول «قد أفلَحَ مَن أسلم ورزِقَ كفافًا وقنَّعه الله بما آتاه» أخرجه مسلم

عباد الله: للذنوب عقوبات و بليات، وأزمات ونكبات، كم من قضايا ومخالفات شرعية، حصلت في زحمة انشغال الناس في أسواق الأسهم والمساهمات، فمنها ترك الصلاة بالكلية، أو تأخيرها عن وقتها في الصالات، وأمام الشاشات، وكم من قضايا الكذب والتزوير والإشاعات ، أليست كلها ذنوب ومعاصي و موبقات ؟!

أيها المسلمون: كسب الرزق وطلب العيش، شيء مأمور به شرعاً، مندفعة إليه النفوس طبعاً، فالله قد جعل النهار معاشاً، وجعل للناس فيه سبحاً طويلاً، أمرهم بالمشي في مناكب الأرض ليأكلوا من رزقه، وقَرَنَ في كتابه بين المجاهدين في سبيله، والذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ، المال جعله الله زينة هذه الحياة ﴿المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ، وجعل النفوس توّاقة إليه، مُحِبةً لجمعه، حريصةً على تحصيله ﴿وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ﴾ ولقد جاء الإسلام فلم يترك هذا الميل إلى المال سيلاً جارفًا، يلعبُ بالنفوس، ويُقلّبها في مواطن الهَلَكة، بل ضبطه بضوابط شرعية، وأحكام فقهية، وهذا المال قد آتاه الله من شاء من عباده رزقًا وفضلاً ومنّةً ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾، فما نحن إلا مستخلفون في هذا المال الذي بأيدينا, فما طغى الأثرياء، ولا تجبّر المترفون، ولا فسقوا بأموال الله التي بأيديهم إلا بغياب هذه الحقيقة، وصدق الله ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ .

و ثمةَ حقيقة أخرى في الإسلام تجاه المال ، وهي أن المال إنما سُخر لنا في هذه الحياة وسيلة لا غاية، ومطية نَركب عليها لا حِملاً يركب علينا. فشتان بين من سعى في دنياه يكتسب من حلال، باحثًا عن الكفاف؛ غير ناسٍ فيه حق الله عز وجل, باذلاً له في أوجه الخير, همّه في المال الذي يجتمع عنده كيف يؤدي حق الله فيه، وأن لا يلقى الله فيسأله عنه سؤالاً لا يجد له جوابًا: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ شتان بين هذا وبين من قضى عمره لاهثًا في الدنيا متطلعًا إليها, حاسدًا كل ذي نعمة على نعمته، قد استولى حب المال على قلبه، فأطلق لنفسه العنان، ولم يُبال بما أكل، أمن حلال أم من حرام، غايته الاستكثار من المال، وهمه مضاعفة أرصدته وزيادتها, منوعٌ كنودٌ، أهلك الشحُّ قلبه، فشتان بين من كانت الدنيا بيديه، وبين من كانت بقلبه. في الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما قُدِّر له» .

فوقوع المصائب المادية، والكوارث الاقتصادية، محطات يحاسب المرء فيها نفسه، فعندما تضاعفت أرصدتك، هل تذكرت حق الله فيها، هل أثبت لنفسك أن المال في يديك لا في قلبك، هل بذلت شيئا منها في طاعة الله ومرضاته، أم كان همك من المال المزيد.

فاللهم أنا نسألك علمًا نافعًا، و أن ترزقنا رزقًا يزيدنا لك شكرًا، وإليك فاقة وفقرًا، وأغننا اللهم عمن أغنيته عنا، واجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقرهم إليك يا أرحم الراحمين...

الخطبة الثانية

فإلى كلّ من أصيب بخسارة مالية، اعلم أن الله ابتلاك في المنع كما ابتلاك في العطاء ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ .

و تذكر أن الصبر على أقدار الله المؤلمة أحد أصول الإيمان، قال عُبَادَةُ بن الصَّامِتِ لابْنِهِ: يا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ حتى تَعْلَمَ أَنَّ ما أَصَابَكَ لم يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وما أَخْطَأَكَ لم يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ أَوَّلَ ما خَلَقَ الله الْقَلَمَ، فقال له: اكْتُبْ، قال: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قال: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كل شَيْءٍ حتى تَقُومَ السَّاعَةُ» يا بُنَيَّ إني سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «من مَاتَ على غَيْرِ هذا فَلَيْسَ مِنِّي» أخرجه أبو داود.

عبد الله: لا تتسخط على أقدار الله، ولا تقع في سبّ الدهور والأزمان، واحذر أن تفتَح على نفسك باب الشيطان ، فتقول: لو أني ما اشتريت، لو أني ما ساهمت. فعن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كان كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وما شَاءَ فَعَلَ، فإنّ لو تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» رواه مسلم.

عباد الله: إن الخسارة في المال مهما كانت فلن تعادل خسارةَ الدين والنفس، ماذا لو أصيب أحد أطرافك بداء ؟ أرأيت لو قيل: إن هناك علاجًا في أقاصي الدنيا وقيمته جميع ما تملك، أتراك تدفع هذا المال لصحتك؟! إذًا فلتحمد الله أن عافاك في بدنك ، وحفظ عليك دينك،فلقد أعطى كثيرا، وأخذ قليلا، ورزق وأنعم، ووسَّع في الرزق، فله الحمد على ما أعطى، وله الحمد على ما منع. والخسارة هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة ﴿إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ﴾ .

ثم لنعلم أن ما يقضي الله قضاءً للمؤمن إلا كان له فيه خير، فكم في هذه المحنة من منحة، وفي هذه النقمة من نعمة، ففيها عبر وعظات ودروس للجميع، وفيها تقوية للمؤمن، وتدريب له على الصبر، وفيها النظر إلى قهر الربوبية، وذل العبودية، وفيها خضوع الإنسان لربه، و انطراحه بين يديه، فالله تعالى يبتلي خلقه، بعوارض تدفعهم إلى بابه يستغيثون به، فهذه من النعم في طي البلاء.

وكـم نعمـة مقـرونـة ببليّـة *** على الناس تخفى والبلايا مواهب

إن الأرزاق مقسومة، كما أن الآجال محتومة، يقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن حبان «إن الرزق ليطلب العبدَ كما يطلبه أجلُه» فو الله لو لم تذهب إلى لقمة كتبها الله لك، لأتتك وهي راغمة. أخرج أبو نعيم في الحلية بسند حسن عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن ابن آدم هرب من رزقه، كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت» .

عباد الله: إن المال غادٍ ورائح، ومقبل ومدبر، والذي أعطاك بالأمس ، وأخذ منك اليوم ، قادر على أن يعطيك في الغد، فإن الله جل جلاله قد أخبرنا في كتابه الكريم، أن رزقه موهوب، وعطاءه ممنوح، لمن شاء من عباده.

فيا من أصيب بماله، لا تعرِّض أجرَك للإحباط، ولا تتعرَّض من ربك للإسخَاط، اصبِر على الرّزيّة، واشكر العَطيّة، فما جلَّت رزيّة إلاّ أفادَت ذخرًا، ولا اشتدَّ بلاءٌ إلا أفادَ صبرًا ، أخرج الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عجب ربنا من قنوط عباده وقُرب غيِرَه؛ ينظر إليكم أزلين قنطين فيظلّ يضحك، يعلم أن فرجكم قريب» .