الآيات الكونية

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات الكونية

فإن الذنوب والآثام ظلمات بعضها فوق بعض، بها تزول النعم، وتحل النقم، وتتحول العافية، وبها يستجلب سخط الله، فالله يخوفنا عواقب الذنب. فلنخف من الله ولنستحي منه، ولنأخذ أنفسنا بالعزيمة على الرشد والبعد من الغي، ولنصغِ لداعي الله ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً﴾.

فالحكمة من إرسال الآيات تخويف العباد لعلَّهم يرجعون، والناس عند حدوث الآيات أصناف فمنهم الجاحدون المكذبون كما جحد فرعون وقومه بالآيات التي جاء بها موسى عليه السلام، وفي هؤلاء قال الله تعالى: ﴿وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَ﴾ .

ومنهم المعرضون كما قال تعالى: ﴿وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ وأمَّا المؤمنون الموقنون فهؤلاء هم الذين ينتفعون تمام المنفعة بهذه الآيات، فتحملهم على الخوف والمبادرة إلى التضرع والدعاء والسجود.

والله تعالى يرسل هذه الآيات لحكم بليغة قال سبحانه ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً﴾ ، وقال: ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وقال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ ، وقال: ﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾، وقال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ ، وقال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ .

 فمن شأن الآيات أنَّها للصالحين رحمة وبرهانٌ، يزدادون بها إيمانًا، وتزداد قلوبهم بها ثباتًا ويقينًا، وتملؤها خوفًا من الله عزَّ وجل وطمعًا في رحمته، فيا سعادة من استعد بالخيرات، وقدم أمامه الأعمال الصالحات، ويا خسارة من فرط في عمره وضاعت عليه لحظات حياته، وقتل أوقاته فراحت هباءً منثوراً، حسراتها تبقى، ولذائذها تفنى

ومن رحمة الله بالعباد أن يرسل من حين إلى آخر ببعض الآيات الدالة على عظمته وربوبيَّته وجلاله، ليعود الناس إليه بعد طول فتور، وليخافهُ المذنبون بعد غفلة وغرور، وليُقْلع أهل الشرِّ عن جميع الشرور.

عباد الله: لقد حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم آيات كونية، ليبين المنهج الرباني في التعامل مع هذه الأحداث، فلقد كسفت الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرج فزعاً يجر رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصلى بهم صلاة طويلة ثم سلم وقد انجلت الشمس، ثم خطب الناس ووعظهم موعظة بليغة، فأثنى على الله بما هو أهل له سبحانه وتعالى، ثم قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة» .

وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا هبَّت الريح الشديدة ،عرف ذلك في وجهه؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه فقلت يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية فقال يا عائشة «ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا» (د)

وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير». فكان يعلق القلوب بباريها.

قال قتادة: إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس، إن ربَّكم يستعتبكم، وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال :أحدثتم والله لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدا.

والخلاصة إنَّ هذه الآيات يجب أن تحدث فينا الخوف من الله تعالى، وتتبدَّى ثمرة ذلك في التوبة وتجديد العهد مع الله تعالى وإصلاح الحال.

الخطبة الثانية

عباد الله: إننا في زمان لا تكاد تمضي السنة حتى يحدث كسوف في الشمس أو القمر أو فيهما جميعا ، كثرت الزلازل والفيضانات، والأعاصير والبراكين، وذلك لكثرة المعاصي والفتن ، فلقد انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا، ونسوا أهوال الآخرة، وأترفوا أبدانهم، وأتلفوا أديانهم، أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة، وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة، التي هي المصير الحتمي والغاية الأكيدة

لقد توالت علينا النذر تحذرنا من المعاصي، وتلين منا القلب القاسي، فالمعاصي لها شؤمها، ولها عواقبها في النفس والأهل، في البر والبحر ﴿ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.

وإن مما يؤسف له أن يظن بعض الناس عن نزول بعض الآيات في هذا الزمان أنها ظاهرة طبيعية مجردة ، لا يهتز له جنان، ولا تذرف له عينان، وما أوتينا إلا بسبب قسوة قلوبنا وما ران عليها من الذنوب

نشاهد هذه الآيات العظيمة، فلا تتحرك القلوب، ولا يفزع إلى الصلاة وذكر الله إلا القلة من الناس، متأثراً بأقوال من لا يرجون حساباً، وكذبوا بآيات الله كذاباًُ، يظن أن ذلك لا أثر له بذنوب العباد، ويستدل لذلك بمعرفة الفلكيين بحدوث الكسوف والخسوف.

عباد الله، إن تلك النظرة المادية المجردة أثرت على كثير من الناس، فأضعفت عندهم الربط بين الأسباب ومسبباتها، ولم يدركوا العلاقة بين الأعمال وآثارها، نشأ في المسلمين فريق تلبسوا بالشهوات فذهبوا بها كل مذهب، وغلبت على آخرين منهم شبهات تواردت عليهم من الشرق أو الغرب حتى رأوا في كسوف الشمس منظراً جمالياً، لا ينبغي أن يفوت الاستمتاع بمشاهدته، فضلّوا بذلك عن إدراك سنن الله ، يحدث هذا ونحن في زمان توافر فيه العلماء، وصحت فيه عقائد كثير من الناس، وانتشر فيه العلم ، فكيف بآخر الزمان الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع آيات عظيمة فيه فقال كما عند الإمام احمد من حديث حذيفة «إن الساعة لا تقوم حتى تكون عشر آيات الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونزول عيسى وفتح يأجوج ومأجوج ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا». فكيف سيكون تفسيرهم لهذه الآيات.