الابتلاء سنة إلهية

بسم الله الرحمن الرحيم

الابتلاء سنة إلهية

الحمد لله الذي جعل بعد الشدة فرجًا، وبعد الضيق سعة ومخرجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

عباد الله، الابتلاء سنةُ الله في خلقه، يبتليهم بالخير والشر، والنفع والضر، ليرى صدق الصادقين، وإقبال المقبلين ، فمن أُلهم الإنابة والتضرع والدعاء، عند نزول البلاء، فقد أريد به النجاة. وقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أنه ما من ليل إلا بعده صباح، وما من ضيق وشدة إلا بعده فرح وفلاح:

تصبّـر إن عقبَى الصبر خيرٌ *** ولا تجـزع لنـائبـة تنـوبُ

فإن اليسر بعد العسـر يأتي *** وعند الضيق تنكشف الكروبُ

وكم جَزعت نفوسٌ من أمور *** أتى من دونِها فـرجٌ قريـب

أيّها المسلِمون: عندَما ينزِل البلاء، وتحُلّ المِحن، وتدلهمّ الخطوب وتعمّ الرزايا، تضطرِب أفهامُ فريقٍ من الناس، وتطيش أحلامُهم، فإذا بِهم يذهَلون عن كثيرٍ من الحقّ الذي يعلمون، وينسَون من الصّواب ما لا يجهلون، هنالك تقَع الحيرة، ويثور الشكّ، وتروج سوقُ الأقاويل، وتهجَر الحقائق والأصول، وتُتَّبع الظّنون وما تهوى الأنفس، ويُحكَم على الأمور بغير علمٍ ولا هدىً ولا كتاب منير، وفي معامِع الغفلةِ ينسى المرءُ أنَّ سنةَ الله في الابتلاء ماضيةٌ في خلقه، وأنَّ قضاءه بها نافذ فيهم.

إنّها ـ سنّة ربانيّةٌ عامّة، لم يستثنِ الله منها أنبياءَه ورسلَه، مع علوِّ مقامهم، وشرفِ منزلتهم، وكرمِهم على ربّهم، بل جعَلهم أشدَّ الناس بلاءً، كما عند الترمذيّ والنسائيّ من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنّه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناسِ أشدّ بلاء؟ فقال: «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثلُ فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسَب دينه، فإن كان في دينِه صلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّة ابتُلِي على قدرِ دينِه، فما يبرَح البلاءُ بالعبدِ حتّى يتركَه يمشِي على الأرض وما عليه خَطيئة» .

وقد نَزَل برسول الله مِن هذا البَلاء الشيء العظيم، وحسبُكم ما ناله مِن أذى قومِه، وتكذيبِهم له، واستهزائِهم به، وصدِّهم الناسَ عن سبيلِه، وحملِهم له على مفارقةِ وطَنه، ومبارحةِ أرضه، وإعلانِ الحرب عليه، وغزوِهم دارَ هجرتِه ومقرَّ دولتِه، ومأمنَ أهلِه وصحابتِه، للقضاء عليه ووأدِ دينه واستئصالِ شأفته، وممالأةِ أعدائه من اليهود والمنافقين في المدينة عليه، وكيدِ هؤلاء له، ومكرِهم به، ونقضِهم ميثاقَهم الذي واثقهم به، والتحالفِ مع المشركين على حربه، وسعيِهم إلى قتله ، فكان مثلُه صلوات الله وسلامه عليه كمثلِ من سبقه على دربِ الابتلاء من إخوانِه النبيّين ثابتًا للمحن، صابرًا على البلاء، مجاهدًا في الله حقَّ جهاده حتّى أتاه نصرُ الله وفتحُه، ودخل النّاس في دِين الله أفواجًا، وغمرت أنوارُ الهداية أقطارَ النّفوس، وخالطت بَشاشة الإيمان القلوب، فلحِق بربّه ومضى إلى خالقِه راضيًا مرضيًّا، طيِّبَ النّفس قريرَ العين، تاركًا في أمّته مِن بعده شيئين ما إن تمسَّكوا بهما لم يضلّوا بعده أبدًا: كتابَ اللهِ وسنّته عليه الصلاة والسلام

عبادَ الله: إنّه لم يكن عجبًا أن ينهَج رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا النهجَ بالصّبر على البلاءِ هو والنبيّون من قبله ، فإنّهم يستيقِنون أنَّ الله تعالى لم يكتُب هذه السّنّةَ على العبد ليهلكَه أو يقتلَه أو يوردَه الموارد، حتّى تضيق عليه نفسُه، وتضيق عليه الأرضُ بما رحُبت، وحتّى تورِثه فسادَ الحال في العاجلة وسوءَ المآل في الآجلة، وإنّما كتبها لحِكمٍ عظيمة وفوائدَ جليلة ومقاصدَ جميلة ، فمِن ذلك أنَّ هذه البلايا إنّما جاءت ليمتحِن الله بها صبرَ عبدِه وليبتليَه فيتبيَّن حينئذ صلاحُه لأن يكونَ مِن أوليائه وحزبِه المفلحين، فإن ثبتَ للخطوبِ وصَبر على الكروب اصطفَاه واجتباه، وخَلعَ عليه خِلَع الإكرام، وألبسَه ألبسةَ الفضل، وكساه حُللَ الأجر، وغشَّاه أغشيةَ القبول، وختم له بخاتمةِ الرّضوان، وجعل أولياءه وحزبَه له وعونًا. وإنِ انقلبَ على وجهه ونَكَص على عقِبيه طُرد وأقصِي وحجِب عنه الرّضا، وكُتب عليه السّخط، وتضاعفت عليه أثقال البلاء وهزمَته جيوشُ الشقاء.

ومِن حِكم الابتلاء ، تحقيقُ العبوديّة لله، فإنَّ الله تعالى يُربِّي عبدَه على السّرّاء والضّرّاء، والنّعمة والبلاء، حتّى يستخرجَ منه العبوديّة في جميع الأحوال.

فالابتلاء كيرُ القلوب ومحكُّ الإيمان وآيةُ الإخلاص ودليل التسليم وشاهدُ الإِذعان للهِ ربِّ العالمين، وهُو كالدّواء النافع يسوقه إلى المريضِ طبيبٌ رحيمٌ به ناصحٌ له عليمٌ بمصلحتِه، فحقُّ المريض العاقِل الصبرُ على تجرّع علقمِه.

فعلى المسلمِ عندَ نزولِ البلاءِ ووقوعِ المحن ونُجومِ الخطوب أن يثبُت لها ثباتًا لا يتزلزَل مهما اشتدَّت ريحها واضطرمَت نيرانُها، وإنَّ لهذا الثّبات أسبابًا تعين عليه وتذلِّل السبيلَ إليه، منها صدقُ اللجوء إلى الله تعالى، وكمالُ التوكّل عليه، وشدّة الضراعة وتمامُ الإنابة إليه، وصِدق التوبَة بهجرِ الخطايا والتّجافي عن الذنوب.

الخطبة الثانية:

أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، واصبروا على ما أصابكم، إن ذلك من عزم الأمور، إن المعروف إذا لم يؤمر به، ضاع واضمحل، فانهدم بذلك جانب من دينكم، وصار العمل به بعد ذلك منكرا مستغربا بين الناس، وإن المنكر إذا لم ينه عنه، شاع وانتشر بين الناس، وأصبح معروفا لا ينكر ولا يستغرب، وقيسوا ذلك بما انتشر من منكرات كنتم تنكرونها من قبل وتستغربون وجودها بينكم .

إن كثيرا من الناس، لا يشكون في فرضية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يمترون في فائدته للأمة ولدينها في الحاضر والمستقبل، ولكنهم يتقاعسون، عن ذلك إما تهاونا وتفريطا، وإما اعتمادا على غيرهم وتسويفا، وإما جبنا يلقيه الشيطان في قلوبهم وتخويفا، وإما يأسا من الإصلاح وقنوطا.

أيها المسلمون: إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قائم مقام الرسل كما قال الله تعالى في وصف خاتمهم وسيدهم محمدا صلى الله عليه وسلم ﴿يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ﴾ فإذا كان قائما مقام الرسل، فلا بد أن يناله من الأذى ما يناله.

وهذا خاتم الرسل وأفضلهم وسيدهم أعظم الخلق جاها عند الله هل سلم من الأذى في دعوته إلى الله وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؟ وكان الكفار إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا ساخرين به: ﴿أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً﴾، ﴿وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾، ﴿وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾ فآذوا النبي صلى الله عليه وسلم بكل ألقاب السوء و السخرية ولم يقتصروا على ذلك فحسب بل آذوه الأذى الفعلي فكان أبو لهب وهو عمه وجاره يرمي بالقذر على باب النبي صلى الله عليه وسلم فيخرج النبي صلى الله عليه وسلم فيزيله ويقول: «يا بني عبد مناف أي جوار هذا». وفي صحيح البخاري أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذا أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبي عدو الله ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟

أيها المسلمون: إن هذا الصبر العظيم، على هذا الأذى الشديد، الذي لقيه النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه لأكبر عبرة، يعتبرها الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر ليصبروا على ما أصابهم، ويحتسبوا الأجر من الله ويعلموا أن للجنة ثمنا ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾.