المسارعة إلى الخيرات في رمضان

بسم الله الرحمن الرحيم

المسارعة إلى الخيرات في رمضان

عباد الله: لا يخفى أنكم تستقبلون عما قريب ضيفا كريما، وموسما عظيما، هو شهر رمضان المبارك، بلغنا الله جميعا إياه، ووفقنا للتقرب فيه بما يحبه ويرضاه، وحشرنا في زمرة السابقين المقربين، إن ربي جواد كريم.

عبد الله: منذ بلوغ سن التكليف وأنت في معترك الحياة، وميدان التسابق ﴿يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾ ولا يزال العبد في سباق، فمستقل ومستكثر، ومقبل ومدبر، حتى يصل إلى النهاية، وهي ساعة الإذن بالانتقال إلى دار الجزاء، فحينئذ يختفي العمل، وينقطع الأمل، فلا يبقى لك يا عبد الله إلا ما أسلفت من الخير أو الشر ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ﴾ .

وقد حث الله سبحانه على الاستباق في كتابه، ورغّب فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، قال سبحانه ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾ وقال ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً﴾ وقال ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ﴾ وقال ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾.

عباد الله: الملائكة تتسابق، عند (س) من حديث رفاعة بن رافع قال: «كنا يوما نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قال: من المتكلم آنفا؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أولا». فإذا كان هذا حال ملائكة الله، وخاصته من خلقه، مع ما هم فيه من دوام الطاعة، إلى قيام الساعة، فلم تعصه طرفة، ولم تفتر عن ذكره لحظه، ومع ذلك يتسارعون في من يتقرب إلى الله أولا، وأسرعهم إليه تحولا!

فبادر يا عبد الله في المسارعة إلى رحماته، وتعرض لنفحاته، وسارع بالأعمال التي تقربك من جناته، عسى أن يصيبك من نسائم جوده، فتفوز بموعوده، من نعيم الجنان، ومعاشرة الحور الحسان، وأعظم النعيم، التلذذ بالنظر إلى وجه ربنا الرحيم.

عباد الله: الأنبياء يسارعون، قال سبحانه عن زكريا وأهله ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾، وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم كان أول المسارعين إلى الطاعات، تقول عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصارخ وثب " ولم تقل: قام، مما يدل على الإسراع والمبادرة.

والمؤمنون يسارعون إلى الخيرات، قال سبحانه ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

عباد الله: وسلفنا الصالح كانوا يتسابقون:

ففي سؤال الجنة وطلبها: لما حدث النبي صلى الله عليه وسلم عن أناس من أمته يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، قام عكّاشة بن محصن فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، فقام رجل آخر فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال: سبقك بها عكّاشة.

وفي مقام الإنفاق: لما ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصدقة ذات يوم، قال عمر بن الخطاب: «لأسبقن أبا بكر هذا اليوم، فذهب فأتى بنصف ماله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: مثله يا رسول الله، فأتى أبو بكر بكل ماله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله».

وفي مقام الجهاد في سبيل الله: يستبق غلمان من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم دون الخامسة عشر! ليجيزهم في المشاركة في القتال، ومنازلة الرجال، فيرد بعضهم فيقول: يا رسول الله، لو صارعت فلانا – ممن أجازه – لصرعته، ويتطاول الآخر على رؤوس أصابعه، ليبدو طويلا؛ ليجيزه النبي صلى الله عليه وسلم .

وهذا معاذ ومعوذ ابني عفراء، يستبقان إلى أبي جهل، أيهم يقتله أولا، تقربا بدمه إلى الله؛ فيقتلانه ويستلبانه، وكلهم يزعم أنه قتله أولا.

فقارن يا رعاك الله: همم هؤلاء الغلمان، مع غلمان اليوم، بل وحتى مع رجال اليوم!

وفي مقام الذكر: لما جاء فقراء المهاجرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: «يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال وما ذاك؟ قالوا يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، قال الراوي: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء».

وفي مقام الدعوة إلى الله: يقول صلى الله عليه وسلم : «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها،سباقا ومسارعة إلى هذا الفضل العظيم، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم قال: أين علي بن أبي طالب...» وذكر الحديث

عباد الله: هكذا كان السلف الصالح في شتى المقامات، وسائر الأحوال والمجالات، لا يألون في المسارعة جهدا، ولا ينقضون للميثاق عهدا، فاستحقوا قوله سبحانه ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ﴾.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: حينما نرى القوم يتسابقون في الصباح إلى الأعمال، من النساء والرجال، يتزاحمون في الطرقات، ويتعرضون للآفات، من أجل أجور دنيوية، ومقامات دنية، فأين هم في صلاة الفجر؟! لا نرى إلا آحاد المؤمنين إلى المساجد يسارعون، يلتمسون فضل رب العالمين.

واقع مؤلم، حينما نرى فئاما من الشباب والشيب، على كراسي المدرجات، يقضون عليها الساعات، متابعين للمباريات، بل ويمر عليهم وقت الفريضة وهم على تلك الحال، كأنما سكرت أبصارهم، وصمت مسامعهم عن منادي حي على الفلاح، فلأي شيء يرجون؟! ومع هؤلاء أضعاف مضاعفة يتابعون عبر الشاشات، ويتنقلون بين القنوات، جريا وراء الشهوات، خلف كل فاسد وفاسدة، وماجن وماجنة، يلوثون المسامع والأبصار، ويتعرضون لموجبات النار، غلبت عليهم الأهواء، وأصابت قلوبَهم الأدواء، فإلى الشهوات يسارعون، وللفجار يمجدون، وللفضائل والآداب يهجرون، ومن أجل تلك الترهات ينفقون طائل الأموال، ويعطلون صالح الأعمال، فلا الزواجر تزجرهم، ولا القوارع تقرعهم، ولا الحوادث والمواقف تعظهم وتذكرهم، فلله كم أغوى إبليس من المبلسين، ولله كم استهوى من الغاوين، فأنفذ فيهم القسم حين قال ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ﴾.

عبد الله: لا زال الباب مفتوحا فأقبل، عسى أن تقبل، وسارع إلى ربك قبل أن تسبق إليك المنية، تعرض للنفحات عسى أن تدركك الرحمات قبل الفوات.

فاتقوا الله عباد الله: واحذروا موجبات الشقاء والحرمان، وكل ما يوصل إلى النار، وتعرضوا لأسباب رحمة الله في هذا الشهر، فإن الله يعطي فيه الكثير من الأجر، على القليل من العمل، ويتجاوز فيه سبحانه عن عظيم التقصير، وكثير الزلل، لمن صدق في التوبة، وسارع في الأوبة، وناهيكم بشهر تضاعف فيه الأعمال الصالحة والأجور، فهنيئا للصائمين المتقين، بالتجارة الرابحة، وعظيم العفو والصفح والمسامحة، فأعدوا العدة لصيامه وقيام لياليه، والتنافس في عمل البر وأنواع الخير فيه، وتعرضوا لنفحات الرب الكريم في سائر أوقاته، فرب ساعة وفق لها العبد، فاغتنمها في رضوان رب العالمين، فارتفع بها إلى منازل المقربين ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾.

اللهم اجعلنا إليك من المسارعين، وإلى الصالحات من المبادرين، وجنبنا سبل الشياطين، وتولنا برحمتك يا أرحم الراحمين.