نعمة الهداية

بسم الله الرحمن الرحيم

نعمة الهداية

الحمد لله الذي بفضله اهتدى المهتدون، وبعدله ضلَّ ضالّون ﴿فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ﴾ .

الهدايةُ مِنحةٌ منَ الكريم لا تُسدَى لكلِّ أحَد، ولا تتحقّق بالأماني و الآمال، ولا نجاةَ من العذابِ ولا وصولَ إلى السعادةِ إلا بها، وهي من أجلُّ نِعمِ الله الواجِب شكرُها ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ .

وطلبُ الثباتِ عليها من أخصِّ أدعيةِ الصالحين: ﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ﴾ ولا سبيلَ إلى الجنّة إلا بسلوكِ طريق الهدايةِ ﴿وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ وأُمِر المسلم بأن يدعوَ ربَّه في كلّ صلاةٍ بأن يمنحَه الهداية، قال شيخ الإسلام رحمه الله: أنفعُ الدعاءِ وأعظمهُ وأحكمُه دعاءُ الفاتحةِ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾ إنها الهداية، أعظم هدف ينشده المؤمن، وأغلى غاية تسعى لها الإنسانية، إنها محض السعادة، ورداء الأمان والاطمئنان. إنها الحبل الممدود الذي يصلك بالله جل وعلا، إنها الطريق الأوحد الموصل إلى رضا الله وجنته، إنها أمل المتقين، وشغل تفكير الصالحين، وسيرة الأنبياء والمرسلين.

روى مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: «يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم».

إن أعظمَ نعمة ينالهُا العبد هي نعمةُ الهداية، لذلك جاء ذكرها في الحديث في مقدّمة النعم التي امتنّ الله بها على عباده، فذُكِرَتْ قبل نعمة الطعام والكساء، وجاء في سورة الشعراء ذكر مقالة إبراهيم عليه السلام: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾.

ولقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابَه بالدّعاء بالهدايةِ، يقول عليّ رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قل: اللهمّ اهدني وسدِّدني» رواه مسلم وقال لمعاويةَ رضي الله عنه: «اللهمّ اجعله هاديًا مهديًّا واهدِ به» رواه الترمذي ومن دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم «اللهمّ اهدني ويسِّر الهدَى لي» وعلَّم الحسن أنْ يقولَ في قُنوتِ الوتر «اللهم اهدني فيمن هديت» .

أيها المسلمون: إنّ من أعظم الفِتن التي يعاني منها المسلمون اليوم،هي فتنة لبس الحقّ بالباطل، تعددت المشارب، واختلفت الأقوال، كثر المفتون، تناحرت الأحزاب، وتنافرت القلوب، والتبس الحق على كثير من الناس.

فعلى المسلمِ أن يتّقيَ ربّه سبحانه، وأن يكونَ في دينه على بصيرةٍ، فما فصَّل الله له الآيات، إلاّ ليستبين سبيل المجرمين، وإذا ما كثُر اللغَط واللّبس، ونطقت الرّويبِضة في أمر العامّة، وخلَط الناس قولاً صالحًا وآخر سيئًا، فليس إلا اللّجوء إلى الله سبحانه لاستجلابِ الهِداية، والوِقاية من اللّبس والتضليل، كما جاء عند مسلم في استفتاح النبيّ صلى الله عليه وسلم لصلاة الليل بقوله: «اللهمّ ربَّ جبريل وميكائيل، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدِني لما اختُلِف فيه من الحقِّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» .

يقصُّ علينا ابنُ القيّم رحمه الله، موقفَ شيخه ابنِ تيمية في مثلِ هذه المعضِلات فيقول: "شهدتُ شيخَ الإسلام رحمه الله إذا أعيَته المسائلُ، واستعصَت عليه، فرَّ منها إلى التوبةِ والاستغفار، والاستعانة بالله واللّجأ إليه، واستنزال الصواب من عنده، والاستفتاح من خزائنِ رحمته، فقلَّ ما يلبَث المدَد الإلهيّ، أن يتتابع عليه مدّا، وتزدلف الفتوحات الإلهيّة بأيّتِهن يبدَا

عباد الله : يقول ابن القيم رحمه الله: "من هُدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم، الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، هدي هناك إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى جنته دار ثوابه، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط، الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط، يكون سيره على ذاك الصراط، ولينظر العبد الشبهات والشهوات، التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم، فإنها الكلاليب التي بجنبي ذاك الصراط، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك ﴿وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ .

الخطبة الثانية:

الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، عمّ امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

فاتقوا الله معاشر المسلمين واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.

عباد الله:

حضورُ مجالسِ العلماءِ من مواطِن الهداية، في عِلمهم وتعليمهم زيادةُ إيمان، وعلى وجوههم سمتُ الصالحين، وعلى جوارِحهم أمارةُ نقاءِ السريرَة، مجالسُهم تذكيرٌ بسِيَر الأفذاذ من الأسلاف، وشَحذٌ دائم للهِمَم إلى الآخرة، في مجالسَتِهم خيراتٌ متناثِرة، وثمراتٌ يانعة، فكُن أقربَ الناس إليهم، يقول ميمون بن مهران رحمه الله: "وجدتُ صلاحَ قلبي في مجالسةِ العلماء"

والتطلُّعُ إلى المنكرات والشهوات، في المرئيّات والسّمعيات، يُظلِم القلبَ بكثرةِ العِصيان، ومن تعرّض للشبهاتِ والشهوات ثم طلبَ إصلاحَ القلب رام مُمتنِعًا، ورُبَّ عثرةٍ أهلكت، ورُبَّ فارِطٍ لا يُستدَرك.

والنفسُ طامعةٌ إذا أطمَعتَها، منتهيةٌ إذا نهيتها، فألجِمها بلجامِ الأوامر والنواهي، وابتعِد عن أسبابِ الفِتَن وموارِدها، فإنّ المقاربةَ منها مِحنةٌ لا يكادُ صاحبها ينجو منها، ومن حام حولَ الحِمى يوشِك أن يقعَ فيه.

والانتصارُ على الشهوات تاجٌ على الهام، ودرءُ الشبهاتِ وقارٌ يعلو النفسَ، وصَونُ الجوارحِ عن المعاصي ثباتٌ بإذنِ الله على الهداية، والاستسلام للهَوى والفراغِ من مداخلِ الشيطان للغوايةِ، والسّعيد من استبق الخيراتِ، ونأى بنفسه عمّا يضرُّه ولا ينفعه.

والجليسُ الصالح خيرُ عونٍ للهدايةِ، يذكِّرك إذا نسيتَ، ويعينك إذا غفلتَ، لا تسمعُ منه إلاّ قولاً طيّبًا، وفِعلاً حسنًا. وقرينُ السوءِ يدعوك إلى البُعدِ عن الطاعات، ويزيِّن لك السيئاتِ، قريبٌ منك في السّرّاء، بعيدٌ عنك في الضرّاء، ضَرَرُه متجدِّد في صُورٍ شتّى، حذّر الإسلام من مصاحبتِه ومن مجالسته، لا للمعالي يُعليك، ولا عن الدنايَا يجافيك، لذا شبّهه النبيّ صلى الله عليه وسلم بنافخِ الكير.

وكلما ازدادت الطاعة، ازدادت الهداية في القلب، وظهرت على الجوارح ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ .

قال ابن القيم رحمه الله: "الهداية تجر الهداية، والضلال يجر الضلال، فأعمال البر تثمر الهدى، وكلما ازددت منها ازداد الهدى، وأعمال الفجور بالضد، وذلك أن الله يحب أعمال البر فيجازي عليها بالهدى والفلاح، ويبغض أعمال الفجور ويجازي عليها بالضلال والشقاء".