خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع

عباد الله : إن فضل الله علينا متواصل، ومواسم المغفرة لا تزال متتالية لمن وفقه الله لاغتنامها، فإنه لما انقضى شهر رمضان، دخلت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، فكما أن من صام رمضان وقامه إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، فكذلك من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه، فما يمضي من عمر المؤمن ساعة من الساعات إلا ولله فيها عليه وظيفة من وظائف الطاعات.

عباد الله: في حجة الوداع خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة جامعة مانعة، اشتملت على وصايا عامة،تسترشد بها الأمة، وتستضئ بها في حياتها، فابتدأ صلى الله عليه وسلم خطبته بقوله: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض: السنة اثنا عشر شهرًا،منها أربعة حرم: ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان» ليبين صلى الله عليه وسلم عظمة الله تعالى في خلقه، وأن الأيام والسنين تمضي على وفق ما أراد لها خالقها، وأنها لا تتغير ولا تتبدل، تسير متعبدة لخالقها سبحانه.

وبعد أن قرر صلى الله عليه وسلم هذه الحقائق المعروفة عندهم، بدأ يقررهم بحقائق أخرى حتى يصل إلى مراده ومقصوده من هذه المقدمة في خطبته، فقال لهم : «أي شهر هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذو الحجة ؟ قالوا: بلى، قال: فأي بلد هذا ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس البلد الحرام؟ قالوا: بلى، قال: فأي يوم هذا ؟ قالوا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى، فلما أقروا بحرمتها قال لهم: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» فسؤاله صلى الله عليه وسلم وسكوته بعد كل سؤال، كان لاستحضار عقولهم، وليقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم به، من بيان تحريم هذه الأشياء.

ثم انتقل صلى الله عليه وسلم من خطابه النظري إلى الخطاب التطبيقي، حتى يكون أكثر فائدة ووقعًا في نفوس السامعين فقال: «ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله» تشنيعاً على هذه الجريمة العظيمة، التي يكفي فيها قوله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ فالربا تدمير للاقتصاد، وخراب للدول، ومحق للبركة، وفساد للأخلاق والمعاملات.

ثم ينتقل صلى الله عليه وسلم نقلة أخرى في خطبته، يبين فيها قضية المرأة، التي طالما نسمع أبواقا تهتف بأنها مظلومة، ولم تعط حقها، ولطالما جعلوا هذه الحقوق ستارًا لنوايا خبيثة، وسرائر سيئة، لإفساد المرأة وإخراجها من بيتها، وتجريدها من حجابها، فبدأ صلى الله عليه وسلم بقوله: «فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» وهذا يدل على عظمة هذه الشريعة وسماحتها، فكل شيء يوزن بميزان عدل، فتؤخذ الأمور أولاً بالرفق واللين والموعظة الحسنة، فعلى الزوج أن لا يلجأ إلى الضرب، إلا عند عدم نفع النصح والهجر، وإذا ضرب فلا يكون ضربًا شديدًا، والنبي صلى الله عليه وسلم كره ضرب النساء فقال: «يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، ولعله يضاجعها في آخر يومه» .

عباد الله : وفي تلك الخطبة يقول صلى الله عليه وسلم : «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟! قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد» وهذه من أعظم الوصايا التي يجب علينا أن نستمسك بها، فما أصاب الأمة من ضعف إلا ببعدها عن تعاليم ربها، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وما تكالب عليها أعداؤها، إلا عندما تخاذل المسلمون عن دينهم.

وفي ختام تلك الخطبة يشهدهم صلى الله عليه وسلم على تبليغه دين الله، وأدائه رسالة ربه، وحرصه صلى الله عليه وسلم على إشهاد أمته على تبليغ رسالته؛ لأن التبليغ هو الواجب على المرسلين ﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ فلما شهدوا له بذلك، أشهدَ ربه على ذلك ثلاثًا، فصلوات الله وسلامه على خير البرية، ومعلم البشرية، ونشهد بأنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركها على المحجة البيضاء، لا يزيغ عنها إلا هالك.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه ... أما بعد

عباد الله: إن إدراك هذه العشر المباركة، والأيام الفاضلة، نعمة عظيمة، ومنة جليلة، يجب أن يشكرها المسلم، ويقدِّرَها قدرها، وذلك بأن يخص هذه العشر بمزيد عناية، وكثير عبادة، وإن من فضل الله تعالى على عباده كثرة طرق الخير، وتنوع سبل الطاعة؛ ليدوم نشاط المسلم، ويبقى ملازماً لعبادة ربه.

فالله الله باستغلال هذه العشر المباركة، وعمارتِها بطاعة الله تعالى، والحذرَ الحذر من التفريط فيها، والتكاسل عنها، والتسويف فإن سوف مطية إبليس.

وعليكم عباد الله تنبيهُ من تحت ولايتكم من الأبناء والبنات والأزواج بفضل هذه العشر، وأَمْرُهم باستغلالها، وتفقيهُهم في أحكامها، فإن الله سائل كلِّ راع عما استرعاه.

واعلموا عباد الله: إن مما يتأكد في هذه العشر، التوبة إلى الله تعالى، والإقلاعُ عن جميع المعاصي الذنوب، والتخلصُ من مظالم العباد وحقوقهم، والتوبة في الأزمنة الفاضلة آكد؛ لكونها من أسباب قبول الأعمال، وأحرى بالقبول عند الله تعالى.

فليحرص المسلم على مواسم الخير، فإنها سريعة الانقضاء، وليُقَدِّم لنفسه عملاً صالحاً يجد ثوابه أحوج ما يكون إليه، فإن الثَواءَ قليل، والرحيل قريب، والطريقَ مخوف، والاغترارَ غالب، والخطرَ عظيم، والله تعالى بالمرصاد، وإليه المرجع والمآب ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ﴾.