التأمل في آية خسوف القمر

بسم الله الرحمن الرحيم

التأمل في آية خسوف القمر

الحمد لله الملك القهار، العظيم الجبار، خلق الشمس والقمر وسخر الليل والنهار، وأجرى بقدرته السحاب يحمل الأمطار، فسبحانه من إله عظيم خضعت له الرقاب، ولانت لقوته الصعاب، توعد بالعقوبة من خرج عن طاعته ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ﴾ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ... أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما سخر لكم من مخلوقاته، فلقد سخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منها ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾.

سخر لكم الشمس والقمر دائبين، لتعلموا بمنازل القمر عدد السنين والحساب، ولتتنوع الثمار بمنازل الشمس بحسب الفصول والأزمان، سخرهما يسيران بنظام بديع، وسير سريع ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ لا يختلفان علوا ولا نزولا، ولا ينحرفان يمينا ولا شمالا، ولا يتغيران تقدما ولا تأخرا، عما قدر الله تعالى لهما ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ فالشمس والقمر آيتان من آياته في عظمهما، آيتان من آياته في نورهما وإضاءتهما ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ (39) لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾.

عباد الله: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على عظيم قدرته، وكمال حكمته ورحمته، فإذا نظرت إلى عظمتهما وانتظام سيرهما، عرفت بذلك كمال قدرة الله، وإذا نظرت إلى ما في اختلاف سيرهما من المصالح والمنافع، تبين لك كمال حكمة الله ورحمته, ألا وإن من حكمة الله في سيرهما، ما يحدث فيهما من الكسوف والخسوف، وهو ذهاب ضوءهما كله أو بعضه، فإن هذا الخسوف يحدث بأمر الله، يخوف الله به عباده؛ ليتوبوا إليه ويستغفروه، ويعبدوه ويعظموه.

وقد كسفت الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فخرج فزعا يجر رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي "الصلاة جامعة"، فاجتمع الناس، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين، في كل ركعة ركوعان وسجودان, ثم خطب الناس، ووعظهم موعظة بليغة، فأثنى على الله بما هو أهله سبحانه وتعالى ثم قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، فافزعوا إلى المساجد، فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره» وفي رواية: «فادعوا وتصدقوا وصلوا» ثم قال صلى الله عليه وسلم : «يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده، أو تزني أمته، يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا» .

وقال صلى الله عليه وسلم : «ما من شيء توعدونه إلا قد أُريته في صلاتي هذه، وأوحى إليّ أنكم تفتنون في قبوكم قريبا أو مثل فتنة الدجال» ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر, وقال: «لقد جيء بالنار يحطم بعضها بعضا، وذلك حين رأيتموني تأخرت، مخافة أن يصيبني من لفحها، حتى رأيت فيها عمرو بن لحي، يجر أقصابه -أي أمعاءه -في النار، ورأيت صاحبة الهرة التي ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعا» وقال: «ثم جيء بالجنة، وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي فأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل».

عباد الله: يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم : إن كسوف الشمس أو القمر لَحَدَث عظيم مخيف, وأكبر دليل على ذلك ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم عند كسوف الشمس، فعلينا أن نفزع لحدوث الكسوف، وأن نلجأ إلى مساجد الله، للصلاة والاستغفار والدعاء، وأن نتصدق لندفع البلاء, وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعتاق في كسوف الشمس؛ لأن عتق الرقبة فكاك للمعِتق من النار، فأسباب البلاء والانتقام عند حدوث الكسوف قد انعقدت، والفزع إلى الصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق يدفع تلك الأسباب.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أظهر لعباده من آياته دليلا, وهدى من شاء من خلقه فاتخذ ذلك عبرة وابتغى إلى نجاته سبيلا, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالخلق والتدبير جملة وتفصيلا, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أبلغ الخلق بيانا وأصدقهم قيلا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما... أما بعد:

عباد الله: لقد أرجف الماديون بصانعي الأقمار الصناعية، وعظموهم وأنزلوهم المنزلة العلية، مع حقارة ما صنعوا، وخلله وتلفه، عن تعظيم من خلق صانعي هذه الأقمار، وعلّمهم كيف يصنعونها، وخلق لهم موادها ويسرها لهم، غفلوا عن تعظيم من خلق الشمس والقمر، دائبين آناء الليل والنهار، وأعرضوا عن التفكر فيهما من القدرة العظيمة، والحكمة البالغة، لذوي العقول والأبصار.

عباد الله: إن كثيرا من أهل هذا العصر، تهاونوا بأمر الكسوف والخسوف، فلم يقيموا له وزنا، ولم يحرك منهم ساكنا، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم، وجهلهم بما جاء عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، واعتمادهم على ما عُلم من أسباب الكسوف الطبيعية، وغفلتهم عن الأسباب الشرعية، والحكمة البالغة التي من أجلها يحدث الله الخسوف بأسبابه. فالكسوف له أسباب طبيعية يقر بها المؤمنون والكافرون، وله أسباب شرعية يقر بها المؤمنون، وينكرها الكافرون، ويتهاون بها ضعيفوا الإيمان، فلا يقومون بما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء، والاستغفار والصدقة.

فاتقوا الله عباد الله وتفكروا في آياته، وما يخلقه في السموات والأرض، فإن في ذلك آيات لقوم يعقلون, تفكروا في هذه السموات السبع الشداد، التي رفعها الله بقوته، وأمسكها بقدرته ورحمته أن تقع على العباد إلا بإذنه, تفكروا كيف أحكم الله بناءها، فما لها من فروج ولا فطور, كيف زينها الله بالمصابيح التي عمتها بالجمال والنور، كيف جعل فيها سراجا وقمرا منيرا, ثم تفكروا كيف كانت هذه المصابيح والسراج والقمر، تسير بإذن الله في فلكها الذي وضعها الله فيه، منذ خلقها حتى يأذن بخرابها، لا تنقص عن سيرها ولا تزيد، ولا ترتفع عنه ولا تنزل ولا تحيد, فسبحان من سيرها بقدرته، ورتب نظامها بحكمته، وهو القوي العزيز.

فاللهم ارزقنا التفكر في آياتك، وارزقنا الاتعاظ بذلك، والانتفاع بما أنزلت من وحيك، وما قدرته من قضائك.