التذكير بالنعم

بسم الله الرحمن الرحيم

التذكير بالنعم

عباد الله: اتقوا الله ربكم حق التقوى، فإن حق التقوى أن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، فاستعينوا بنعم ربكم على طاعته، وإياكم وبذلها في معصيته، أو تضييع شيء من حياتكم في غير عبادته، وما يوصلكم إلى مرضاته وجنته، فإن الحياة لحظات محدودة، وأنفاس معدودة، والأعمال من ربكم مشهودة، وغدا يقول الغافل عن الأجل، والمفرط في العمل ﴿رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ ثم إنكم بعد ذلك بين يدي ربكم موقوفون، فمحاسبون وبأعمالكم مجزيون، وعلى تفريطكم نادمون ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾.

عباد الله: إنكم مسئولون عن نعم الله عليكم، ماذا قابلتموها به من شكره وعبادته، ومحاسبون على تقصيركم في الاستعانة بها على ذكره وطاعته، ويا ويح من بذلها في سخطه ومعصيته ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾.

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يفيد أن الناس يسألون عن شبع البطون، وبارد الشراب، وظلال المساكن، واعتدال الخلق، ولذة النوم، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما من منزله بسبب الجوع فلقي أبا بكر الصديق في الطريق فسأله ما أخرجه؟ فقال: الجوع، ثم لقيا عمر فسألاه عما أخرجه؟ فقال: الجوع، فمضوا حتى أتوا نخلا لأحد الأنصار، ففرح بهم فضيفهم وذبح لهم شاة وقدم لهم عذقا من النخل فيه بسر ورطب وماء بارد فلما أكلوا وشربوا من الماء البارد قال صلى الله عليه وسلم كما في (م): «هذا من النعيم الذي ستسألون عنه يوم القيامة».

عباد الله: إذا كان الإنسان مسئول عن الشبعة والشربة، التي لم يعاني في تحصيلها مشقة، ولم يبذل فيها نفقة، فكيف بما نتمتع به هذا الزمان من ألوان النعم وأصناف المنن من ذي الجود والكرم، لقد منحنا الله منحا كريمة، وأسبغ علينا نعما عظيمة، عقيدة صحيحة، ودينا قويما وعلما أثريا أصيلا، وصحة في الأبدان، وأمنا في الأوطان، ووفرة في الأرزاق، مع الألفة والاجتماع على الخير والوفاق، ورفاهية في الملابس والمآكل والمشارب، وراحة في المساكن والمراكب، وطمأنينة في النفوس، وكم لنا فيما يجري حولنا من العبر والدروس، وراحة من الهموم المقلقة المنغصة، وفراغا من الأشغال الشاقة المتعبة، وهذه والله نعم كبرى، قد نُزعت من كثير ممن حولنا من الأمصار، حتى خلت منها أوطان وأقطار، وما ذلك إلا بسبب كفرهم لها، ومكرهم بها، أناء الليل وآناء النهار، فاشكروا ربكم على سوابغ نعمه، واسألوه المزيد من فضله وجوده وكرمه، واستيقنوا أنكم عنها مسئولون، وانظروا فيما غدا ستجيبون، فأعدوا للسؤال جوابا، وليكن الجواب صوابا، فإن كثيرين من الناس قد صرفوا أعمارهم واموالهم، وما متعهم الله به في غير طاعته، وهذا خسران مبين، وأخسر منهم من بذل هذه الأشياء في معصية رب العالمين، وفي الحديث الذي خرجه ( ت ) وحسنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه».

عباد الله: لقد ذكركم ربكم بشيء من جلائل نعمته، وحثكم على شكرها والاستعانة بها على طاعته، بعد أن أمركم بسرعة الاستجابة لدعوته، وحذركم مما يصيب به الظالمين من فتنته، وشديد عقوبتة فقال ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾. ولقد توعد ربكم بشديد العذاب من كفر، كما وعد بالمزيد لمن شكر ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ فاحذروا عباد الله من كفر النعم، فإنه موجب للزوال والنقم، واستعيذوا به من الفتن ما ظهر منها وما بطن، فإن الفتن سلابة للنعم الكبرى، مورثة للمصائب العظمى.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: إن كثيرين من الناس اليوم، بنعم الله يتمتعون، وبكفرها يجاهرون، فلا ينسبونها إلى الله، ولا يستعينون بها على طاعته وهداه، ولا يتقون ما يسخطه ويأباه، فتجدهم يشبعون ويتمتعون بأصناف النعم، ثم يضيعون فرائض الصلوات، ويرتكبون جهرة عظيم المنكرات، ويمضون أوقاتهم ويهلكون أموالهم في اللهو والغفلة وأنواع المنكرات ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ فكم من الناس من يسهر الليالي الطوال،على قبيح الأفلام، وكم منهم من يشغل المجالس بفاحش الكلام، وكم من الناس من يغتنم الإجازة للخروج للبراري والمنتزهات، ليقيموا فيها أياما مسرفين في الطيبات، متخلفين عن الصلوات ، ومنهم من يتعاطى الخمور والمخدرات، ويباشر " والله يراه " فظيع المحرمات، وربما سهروا على عزف وغناء، ترتج منه الأرض والفضاء، ويضج مَن جاورهم من صالح العباد إلى الله بالدعاء، يشكو إليه أذى هؤلاء ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ في (خ م) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «كل أمتي معافى إلا المجاهرين» فالمجاهر بالمعصية ليس في عافية، بل هو عرضة للعقوبة التي قد تحل به فجأة وفيهما أيضا «وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

عباد الله: ومن الناس من سافر في الإجازة إلى بلاد الشرك والفساد، ومواطن الإلحاد، وشرار العباد، ليخلي بين نفسه وبين ما تشتهي من الشهوات المحرمة، والأفعال القبيحة، والمظاهر المخزية في مواخير الزنا، وحانات الخمور، وأماكن عظائم الأمور، بعيدا عن أنظار أهل الخير، وربك بما يعملون خبير ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾.

عباد الله: إن قصد ديار الكفار لغير غرض شرعي ترجحت مصلحته، ضرر محض على الدين والنفس والعرض، فإنه مع مظنة الوقوع في أنواع الفواحش والمنكرات، وتضييع الفرائض والواجبات، مخاطرة بالنفس، بتعريضها لمواطن الهلكات، فضلا عما يحيط بالمرء من أخطار لصوص القلوب، ولصوص الجيوب، والإقامة بين ظهراني الكافرين والمشركين بعلام الغيوب، ولقد برىء النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم يقيم بين ظهراني الكافرين، ووصف الله تعالى الذين ماتوا في ديار الكفر مع القدرة على الهجرة بالظالمين، وتوعدهم بالنار مع الخاسرين ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾.

فاتقوا الله عباد الله: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون، واشكروا نعم الله بالقول والعمل، وانسبوها إليه، واستعينوا بها على طاعته، وتزودوا بعمل صالح تسرون به ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.