بقي النصف من الشهر

بسم الله الرحمن الرحيم

بقي النصف من الشهر

عباد الله: إن شهر رمضان قد انتصف، فهل فينا من قهر نفسه وانتصف؟ وهل فينا من قام فيه بما عرف؟ وهل تشوقت أنفسنا لنيل الشرف؟ فلنستدرك باقي الشهر، فإنه أشرف أوقات الدهر، هذه أيام يحافظ عليها وتصان، هي كالتاج على رأس الزمان، ولنعلم أننا مسئولون عما نضيعه من أوقات وأحيان، فعن أبي برزة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم عمل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه».

يقول الحسن البصري رحمه الله عن سلف الأمة: "لقد صحبتُ أقواماً يبيتون لربهم سجداً وقياماً، يقومون هذا الليل على أطرافهم، تسيل دموعهم على خدُودهم، فمرة رُكعاً، ومرةً سجَّداً، يناجون ربَّهم في فكاك رقابهم، لم يملّوا طول السهر لِما خالط قلوبهم من حسن الرجاء، فأصبح القوم مما أصابوا من النصب لله في أبدانهم فرحين، وبما يَأملون من حسن ثوابهم مستبشرين، فرحم الله امرأ نافسهم، ولم يرض لنفسه من نفسه بالتقصير في أمره ، واليسير من فعله، فإن الدنيا عن أهلها منقطعة، والأعمال على أهلها مردودة" أ.هـ

عباد الله: قيامُ الليل يورثُ القلبَ رقةً ونوراً، قال عطاء الخرساني: "كان يقال: قيام الليل محياة للبدن، ونور في القلب، وضياء في البصر، وقوة في الجوارح، وإن الرجل إذا قام من الليل متهجداً أصبح فرحاً يجد لذلك فرحاً في قلبه، وإذا غلبته عيناه فنام عن حزبه أصبح حزيناً منكسرَ القلب، كأنه قد فقد شيئاً، وقد فقد أعظم الأمور له نفعاً" أ . هـ

إن ربنا ينزل إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يبقى ثلث الليل فيجيب دعوة الداعي، ويعطي السائلَ ، ويغفر الذنب ، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كلَّ ليلة» (م)

قال الفضيل بن عياض: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم قد كثرت خطيئتك

عباد الله : عشر رمضان الأخيرة قد قربت، فيها خيراتٌ كثيرة، وفضائل مشهودة، فيها ليلة خير من ألف شهر، من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن جدّ واجتهد في طلب أمر ضحّى من أجله، وفي سبيله استسهل الصعب، وتلذذ بأي مشقة في الدرب، يتقلب في أنواع القربات والطاعات ليلاً ونهارا، يومه كله عبادة، وجوارحه في طاعة، تراه قائماً، فإذا فرغ أمسك القرآن تالياً، ثم لهج لسانه بالذكر والاستغفار مردِّداً، ثم رفع أكفَّ الضراعة سائلاً، قلبُه خاشع، لسانه ذاكر، عينه باكية، جوارحه خاضعة، قد شغِل عن جميع الناس بطاعة إله الناس. طالبا ليلة القدر التي أنزل الله فيها سورة تتلى إلى يوم القيامة: ﴿لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ .

عباد الله : الصلاة مفزع التائبين ، وملجأ الخائفين، ونور المتعبّدين، وبضاعة المتاجرين، تجلو صدأ القلوب بأنوارها، وتزيل حُجُب الغفلات بأذكارها، وتنير الوجوه بأسرارها وآثارها

صلاة الليل تشحَذ الهمم، قربةٌ إلى الله، ومنهاةٌ عن الإثم، وتكفيرٌ للسيئات، ومطردةٌ للداء عن الجسد، يقول وهب بن منبه رحمه الله: "قيام الليل يشرف به الوضيع، ويعزُّ به الذليل، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات، وليس للمؤمن راحة دون الجنة، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: من أحب أن يهوِّن الله عليه طول الوقوف يوم القيامة فليره الله في ظلمة الله ساجداً وقائماً، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه .

إنهم عباد الرحمن يبيتون لربهم سجداً وقياماً، انتزعوا نفوسهم من وثير الفرش، وهدوء المساكن، وسكون الليل، وركود الكون، غالبوا هواتف النوم، وآثروا الأنس بالله، والرجاء في وعده، والخوف من وعيده ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ .

عبادٌ لله قانتون متقون ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ .

لصلاة الليل عندهم أسرارها، وللأذكار في نفوسهم حلاوتها، وللمناجاة عندهم لذّتها، يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله: "أهل الليل في ليلهم ألذّ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا .

الله أكبر، ما طاب لهم المنام لأنهم تذكروا وحشة القبور، وهول المُطَّلع يوم النشور، يوم يُبعَثر ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور،عبادٌ صالحون ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ .

إذا أظلم الليل نامت قلوب الغافلين، وماتت أرواح اللاهين، من لم يكن له ورد من الليل فقد فرّط في حق نفسه تفريطاً كبيرا، وأهمل إهمالاً عظيما، أيُّّّ حرمان أعظم ممن تتهيّأ له مناجاة مولاه، والخلوة به، ثم لا يبادر ولا يبالي؟! ما منعه إلا التهاون والكسل، وما حرمه إلا النوم وضعف الهمة، ناهيك بأقوامٍ يسهرون على ما حرم الله، ويقطّعون ليلهم في معاصي الله، ويهلكون ساعاتهم بانتهاك حرمات الله، فشتان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.

عباد الله: إن مما يحُث الهمة ، ويبعث القوة ، أن تعلم أنك في أيام فاضلة، وأوقات شريفة، في شهر مبارك، المغبون من فرط فيه، والخاسر من لم ينافس فيه، هو ميدان التسابق لقُوَّام الليل، وساحات التنافس للركّع السجود، هذه الأيام من أرجى الأيام، فاجتهد يا رعاك الله في اغتنامها قبل انقضائها .

الخطبة الثانية :

عباد الله: لقد مضى من رمضان صدره، وانقضى منه شطره، واكتمل منه بدره، فاغتنموا فرصة تمرُّ مرَّ السحاب، ولِجوا قبل أن يُغلق الباب، وبادروا أوقاته مهما أمكنكم، واشكروا الله على أن أخّركم إليه ومكّنكم، واجتهدوا في الطاعة قبل انقضائه، وأسرعوا بالمثاب قبل انتهائه، فساعاته تذهب، وأوقاته تُنهب، وزمانه يُطلب، ويوشك الضيف أن يرتحل، وشهر الصوم أن ينتقل، فأحسنوا فيما بقي، يغفر لكم ما مضى.

عباد الله: تنصَّف الشهر وانهدم، وفاز من بحبل الله اعتصم، وخاف من زلّة القدم، واغتنم شهر رمضان خير مغتنم، وشقي الغافل العاصي بين الذل والسقم، والأمن والندم، ويا ويله يوم تحل على أهل المخالفة الآفات، يوم تنقطع أفئدة أهل التفريط بالزفرات، يوم يُحشر أهل المعاصي والدموع على الوجنات، يقول تعالى في الحديث القدسي «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» أخرجه مسلم

عباد الله: أين من كانوا معنا في رمضان الماضي ، أما أفنتهم آفات المنون القواضي، وأعدمتهم صوماً وفطراً، وزوّدتهم من الحنوط عِطرا، وأصبح كل منهم في اللحد قبرا ، أما أدارت عليهم المنون رحاها، وحَكَّ وجوههم الثرى فمحاها ، ثم أين من صاموا معنا في أول الشهر، وقاموا أوله يبتغون الأجر، أتاهم هادم اللذات، وقاطع الشهوات، ومفرّق الجماعات، فنقلوا من القصور المنيفة إلى بطون الحفر، ومن الفرش الوثيرة إلى خشونة المدر، ونحن على الأثر، فتأهبوا لمثل ما حلّ بهم من الغِيَر، وتذكروا مرارة الموت الذي لا يسلم منه بشر ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ .

من الذي طلبه الموت فأعجزه؟ من الذي تحصَّن في حصنه وما أدركه؟ من الذي سعى في مُناه فما أعوزه؟ من الذي أمّل طول الأجل فما حجزه؟ أي عيش صفا وما كدّره؟ وأي غصن علا وما كسره؟ لقد أخذ الآباء والأجداد، وأرمل النساء وأيتم الأولاد، وحال بين المريد والمراد.

لا دافع عنكم من الموت يقيكم، فتوبوا قبل أن تندموا إذا غصّت تراقيكم ﴿قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ﴾ .

فيا من فرّطتم في شهر رمضان القائم، هل أنتم على يقين من العيش إلى رمضان قادم؟! فقوموا بحق شهركم، واتقوا الله في سرِّكم وجهركم، واعلموا أن عليكم ملكين يصحبانكم طول دهركم، ويكتبان كل أعمالكم، فلا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم.