الصحبة وأثرها على المرء

بسم الله الرحمن الرحيم

الصحبة وأثرها على المرء

الحمد لله الذي أوضح لنا السبيل، وهدانا إلى صراطه المستقيم، تفضل علينا بالنعم فلا يبلغ أحد شكر نعمته، هدى عباده إلى سبيل رحمته، فلا يضل من انقاد لطاعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا معقب لحكمه، ولا مبدل لكلماته، وهو سريع الحساب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، نور الله بشريعته مشارق الأرض ومغاربها، ونكس به رايات الشرك والضلال، وأخرج الله به العباد من الظلمات إلى النور، وهداهم إلى الصراط المستقيم .... أما بعد:

عباد الله: يتفاوت الناس في الحياة الدنيا، فمنهم الضعيف، ومنهم المتوسط المكانة، ومنهم الذي يسبق ويتقدم، ومنهم الذي يسود ويترأس، وكلما علت درجة المرء بين الناس، زادت مسئوليته وثقلت تبعته، والمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، لا يستطيع أن يحيى وحده في هذه الحياة مهما أوتي من بسطة في العلم والجسم والمال، بل لا بد له ممن يصاحبه ويعاونه، ويتبادل معه المؤازرة والمؤانسة، والمساندة والمساعدة، والصحبة رابطة روحية، لها مكانتها وقيمتها، ولها آثارها وفوائدها، والقرآن الكريم يزكي الصحبة، ويسموا بحديثها، حينما أخبر الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه صاحب في قوله سبحانه ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ وفي قوله ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ﴾، وحين يخبر الله تعالى عن الرابطة بين الابن وأبويه، ويبين أنها مصاحبة، في قوله سبحانه ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً﴾، وأخبر الله عن الزوجة بأنها صاحبة، وعن الرفيق في السفر بأنه صاحب ﴿وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾.

ولقد نهضت دعائم الدعوة الإسلامية في عصرها الأول، على الصحبة والصحابة، وذلك لما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم هاديا ومبشرا ونذيرا، استجاب له نفر كرام، فازوا بشرف السبق إلى صحبته ومعاونته ومؤازرته، حتى استحقوا بهذه الصحبة، التي حفظوا جانب حرمتها، ورعوها حق رعايتها، صادق التكريم والتمجيد، فرضي الله عنهم ورضوا عنه.

وقد تمثلت الصحبة عظيمة كريمة رائعة، في تلك العلاقة النبيلة الجليلة الطاهرة، التي ذكرها الله في كتابه، بين نبيه صلى الله عليه وسلم وخليفته أبي بكر الصديق رضي الله عنه، الذي وفى للرسول بقلبه ولسانه، وماله وأعماله، وجازاه النبي صلى الله عليه وسلم وفاءً بوفاء، وإخلاصا بإخلاص، واعتز الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الصحبة، اعتزازا عميقا واضحا، فقال كما عند (خ) : «إن أمن الناس علي بصحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر خليلا» فكان رضي الله عنه، رفيقه في الغار، يدافع عنه، ويسعى في خدمته، ويقتدي به في دعوته، وشهد له ربنا في قوله ﴿إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾.

عباد الله: إن أساس الصحبة المرضية من الله ورسوله، أن تكون خالصة لله، حتى تكون شريفة القصد، نبيلة الهدف، وليس هناك أعلى ولا أسمى ولا أنقى من جعل الصحبة والمجالسة والبطانة خالصة لله جل جلاله، لأن عمادها سيكون قائما على الطهر والتقوى والإخلاص، وستبقى هذه العلاقة التي نهضت بأصحابها على الإخلاص والصدق والمناصحة، كما هي في الدنيا والآخرة، بقول الله تعالى ﴿الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المُتَّقِينَ﴾ وما من إنسان إلا وله أصحاب يقربهم إليه، وجلساء يأنس بهم، وبطانة يشاورهم في أموره وشؤونه، والواجب على الإنسان أن يحسن اختيار بطانته، وأن يصطفيهم من أهل الدين والحكمة، والصلاح والاستقامة، وكثيرا ما يقاس الرجل بجلسائه وأصحابه.

عباد الله: إن مسؤولية الإنسان تبدأ من حسن الاختيار للأصحاب، فالصاحب دليل على صاحبه، إذ النفوس المتماثلة تتجاذب فيما بينها، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله كما في (د،ت): «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» .

وكل صحبة وبطانة لا تخلو من تأثير وتأثر، وقد كان السلف يحرصون على الجليس الصالح، والصاحب التقي النقي، الذي يعين على الخير، ويزيل وحشة الغربة، فقد ورد عن علقمة أنه حين قدم الشام غريبا كما في (خ) دعا وقال : «اللهم يسر لي جليسا صالحا» لأن الجليس الصالح: يذكرك إذا غفلت، ويعينك إذا تذكرت، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كما في ( خ ) أيضاً: «أن الله ما بعث من نبي ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه» .

والمعصوم من عصم الله، ومن أراد الاحتياط لأمر دينه، فليأخذ بوصية النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار الصحبة الصالحة، حيث قال كما عند (د): «لا تصاحب إلا مؤمنا» وعند (ت) : «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه» فإذا عرفت سلامة الطريق، وصواب الرأي وحصول التوفيق، فاستعن بالله في اتخاذ بطانة صالحة، ولا تلتفت إلى المداحين، الذين لا يبصرون أخاهم بأخطائه وعيوبه، وكلما كان الأصحاب والبطانة من أهل العلم والتقوى وسداد الرأي والحكمة، كان الإنسان أبعد عن الزلل بإذن الله، وقد صدر (خ) أحد أبوابه صحيحه بقوله: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم، وإن كتمان العيوب عن الصاحب خيانة له، والكيد والتخطيط لوقيعته جريمة في حقه، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال كما عند (د ت ): «وأعوذ بك من الخيانة، فإنها بئست البطانة» فالجليس الصالح عباد الله كحامل المسك، وقد تكون الريح الطيبة التي تجدها منه، كلمة حق صريحة، أو كلمة نصح في إخلاص، فيجب أن تلقى تجاوبا وقبولا وتقديرا، ومن ثمرات الجليس الصالح والبطانة الصالحة، المشورة بالرشد، والسداد في الرأي، والحكمة في القول، والمناصحة بالإخلاص، وجلب الخير، ودفع الشر، والإشارة بالأصلح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «المستشار مؤتمن» .

فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن الجليس يؤثر بأفكاره وأخباره، فحسن اختيار البطانة والجليس، تجنب الإنسان كثيرا من المفاسد، ومن أراد الاحتياط لدينه، عليه أن يختار الصالحين لصحبته، فما أحوج الإنسان في هذه الحياة إلى صاحب له أمين، يذكره إذا غفل، ويعينه إذا ذكر، ويشاركه إذا فرح، ويشاطره إذا حزن، ويخلص معه الصحبة لوجه الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: اعلموا أن المصاحبة والمجالسة تستوجب الإخلاص في النصح، والصدق في العظة، والحكمة في التوجيه، يروى أن عمر بن الخطاب اختار عبد الله بن عباس ليشير عليه فقال له أبوه العباس: "يا بني إني أرى هذا الرجل – يعني عمر – يستشيرك ويقدمك على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وإني موصيك بخلال أربع: لا تفشين له سرا، ولا يجربن عليك كذبا، ولا تطوين عنه نصيحة، ولا تغتابن عنده أحدا" .

فحق على كل أحد أن يتحرى بغاية جهده، مصاحبة الأخيار، ومجانبة الأشرار، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من جليس السوء وصوره بنافخ الكير، الذي يصدر منه الأذى بمجالسته في الدين والدنيا.

عباد الله: بعض الناس اليوم غلب عليهم الجهل والبعد عن الدين، وتسلط عليهم جلساء السوء، الذين يصدونهم عن الحق، ويزينون لهم الباطل، وخاصة الشباب، فقد ابتلي بعضهم بألون من الصحبة السيئة، التي تنشأ في ظلمات الإثم والغش والخداع والتضليل، فجالسوا من ضل سعيهم في الحياة الدنيا، فاندفع شباب في صحبة أهل الأهواء والبدع، وأصحاب الفكر الضال، وانساقوا معهم في صداقة لا تزيد علما، ولا تحفظ دينا، فخدعوهم وغرروا بهم، وجعلوهم أدواة لتنفيذ مخططاتهم، وشوهوا سيرتهم وسيرة أسرهم بين الناس، ولم يحدث هذا إلا في ظل غياب الأولياء عن أولادهم، وتركهم دون متابعة ولا رعاية، وعليهم شأن عظيم في حفظ أولادهم، وصيانة عقولهم، من جلساء السوء، الذين يفسدونهم، ويعبثون بحياتهم، ويجعلونهم أدواة للفساد والإفساد، والتدمير والتفجير، فكم من شاب كان بين والديه وإخوانه، ثم تأثر ببطانة سيئة، وجلساء مفسدين، يحملون أفكارا ضالة، جنوا عليه وأوردوه المهالك، وتحولت نتيجة صحبته لهم، إلى انتهاك لحدود الله، وتدمير لمصالح العباد، وسفك لدماء نفوس معصومة.

وإن المفرط في هذه الأمانة، آثم عاص لله جل وعلا، يحمل وزر معصيته أمام ربه، ثم أمام عباده، قال بعض السلف: كنا نسمع أن أقواما، سحبوهم عيالاتهم على المهالك، والله تعالى يقول ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُواًّ لَّكُمْ فَاحْذَرُوَهُمْ﴾. قال قتادة: كان يقال إذا بلغ الغلام، فلم يزوجه أبوه، فأصاب فاحشة: أثم الأب.

والشأن عباد الله: في تأسيس البدايات، فإذا أُسِّس عقل الصغير على المنهج السليم، والتربية الصحيحة، وتوبع في ذلك، حتى استقر في نفسه، ودخل في قلبه، اكتسب الصغير حصانة وحماية ضد كل فساد وجريمة، لكن بعض الآباء وللأسف، قد يتساهل ويفرط في تربية ولده وهو صغير، وخاصة الذين بلغوا مرحلة التمييز، حتى إذا ما بلغ المولود رشده، كان قد استمرأ هذه الأذايا، وتشرب عقله بتلك الأفكار، وتأثر بها في حياته، وخالطة دمه وقلبه، فيبقى الوالدان في اضطراب ونكد، ومكابدة في العودة بأولادهم إلى طريق السلامة، ولكن هيهات، هيهات، وكأن لسان حاله يقول: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، وقد بان للعيان، وظهرت للناس، كلمات أولئك الآباء، على صفحات الصحف، وندمهم على ما فعل أبناؤهم، وهم أحداث في أسنانهم، صغار في أعمارهم، كيف ضللوا؟ كيف هربوا من بيوتهم؟ ودخلوا تلك الدوائر المظلمة؟ وانتحلوا تلك الأفكار الضالة؟ وصار حقا أيها المسلمون أن الطفل الذي يقوم على أساس الفطرة السليمة، والعقيدة الصحيحة، والعقل السليم، والتوجيه السديد، والمتابعة الدائمة، والتفقد المستمر، سوف ينطلق بإذن الله من تأسيس سليم،وتربية صحيحة، ويحفظ من بدايات حياته من السلوك الضار بدينه ودنياه.

فاتقوا الله أيها الآباء: واعلموا أن أبناءكم أمانة من الله في أيديكم، إن قمتم بها حق القيام، فزتم برضا ربكم، وثواب خالقكم، والراحة في دنياكم، والذكر الحميد بعد مماتكم، وإن ضيعتموها، فسوف تجنون عواقب الإهمال، فاختاروا لهم ما يصلحهم، وتخير جليسك وجليس أولادك، من أهل الدين والصلاح والحكمة، تسعد به وتنتفع منه، والله تعالى يقول ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ ويقول ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ ويقول ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ﴾.