الصلاة ركن يترنح

بسم الله الرحمن الرحيم

الصلاة ركن يترنح

أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله فإنّ تقواه أفضلُ مكتَسَب، وطاعته أعلى نسب ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ .

أيّها المسلمون: لقد أنعَم الله عليكم بنعمٍ سابغة وآلاء بالغة، نعمٍ ترفُلون في أعطافها، ومننٍ أُسدِلت عليكم جلابيبُها. وإنّ أعظمَ نعمةٍ وأكبرَ مِنّة نعمةُ الإسلام والإيمان.

فاحمَدوا الله كثيرًا على ما أولاكم وأعطاكم، وما إليه هداكم، حيث جعلكم من خير أمّةٍ أخرِجت للناس، وهداكم لمعالم هذا الدين الذي ليس به التِباس.

ألا وإنَّ من أظهرِ معالمِه، وأعظمِ شعائره، وأنفع ذخائره، الصلاةَ ثانيةَ أركان الإسلام، ودعائمه العظام، هي بعد الشهادتين آكَدُ مفروض، وأعظم معرُوض، وأجلُّ طاعةٍ، وأرجى بضاعة، من حفِظها حفِظ دينَه، ومن أضاعها فهو لما سواها أضيَع، هي عمودُ الدّيانة، ورأسُ الأمانة، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «رأسُ الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاة» .

جعلها الله قرّةً للعيون، ومفزعًا للمحزون، فكان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم إذا حزَبه أمرٌ فزع إلى الصلاة، ويقول عليه الصلاة والسلام: «وجُعِلت قرّةُ عيني في الصلاة»، وكان ينادي: «يا بلال، أرِحنا بالصلاة» فكانت سرورَه، وهناءَةَ قلبه، وسعادةَ فؤادِه.

هي أحسنُ ما قصده المرءُ في كلّ مهِمّ، وأولى ما قام به عند كلِّ خطبٍ مدلهِمّ، خضوعٌ وخشوع، وافتقار واضطرار، ودعاءٌ وثناء، وتحميد وتمجيد، وتذلُّل لله العليِّ الحميد.

الصلاةُ هي أكبرُ وسائل حِفظِ الأمن، والقضاء على الجريمة، وأنجعُ وسائل التربية على العِفّة والفضيلة ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ .

هي سرُّ النجاح، وأصلُ الفلاح، وأوّلُ ما يحاسب به العبدُ يومَ القيامة من عمله، فإن صلَحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسَدت فقد خاب وخسِر. المحافظةُ عليها عنوان الصِدق والإيمان، والتهاون بها علامةُ الخذلان والخُسران. طريقُها معلوم، وسبيلُها مرسوم، من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافِظ عليها لم يكن له نورٌ ولا برهان ولا نجاة، من حافظ على هذه الصلواتِ الخمس ركوعهنّ وسجودهن ومواقيتِهن وعلم أنهنّ حقٌّ من عند الله وجبت له الجنة.

نفحاتٌ ورحمات، وهِبات وبركات، بها تَكفَّر السيئات، وترفَع الدرجات، وتضاعَف الحسنات، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم «أرأيتم لو أنَّ نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كلَّ يوم خمسَ مرّات، هل يبقى من درنه شيء؟!» قالوا: لا يبقى من درنه، قال: «فذلك مَثَل الصلوات الخمس؛ يمحو الله بهنّ الخطايا» متفق عليه

أيّها المسلمون، إنّ ممّا يندَى له الجبين، ويجعل القلبَ مكدَّرا حزينًا، ما فشا بين كثيرٍ من المسلمين، من سوءِ صنيع، وتفريطٍ وتضييع، لهذه الصلاةِ العظيمة، فمنهم التاركُ لها بالكلّيّة، ومنهم من يصلّي بعضًا ويترك البقيّة. ومنهم من لا يشهدها مع الجماعة،لقد خفّ في هذا الزمانِ ميزانها، وعظُم هُجرانها، وقلّ أهلُها، وكثُر مهمِلُها.

عباد الله: إنَّ من أكبر الكبائر، وأبين الجرائر، تركَ الصلاة تعمُّدًا، وإخراجَها عن وقتها كسَلاً وتهاوُنًا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقَد كفر» ويقول عليه الصلاة والسلام: «بين الرجل والكفر ـ أو الشرك ـ تركُ الصلاة» أخرجه مسلم .

إنّ التفريطَ في أمر الصلاة، من أعظم أسبابِ البلاء والشقاء، ضَنكٌ دنيويّ، وعذاب برزخي، وعِقاب أخرويّ ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ﴾ .

فيا عبد الله، كيفَ تهون عليك صلاتُك، وهي رأسُ مالك، وبها يصحّ إيمانك؟! كيف تهون عليك وأنت تقرأ الوعيدَ الشديدَ ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ كيف تتّصف بصفةٍ من صفات المنافقين الذي قال الله عنهم ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ .

أيّها المسلمون: الصلاةُ عبادةٌ عُظمى، لا تسقُط عن مكلَّف بحال، ولو في حال الفزع والقتال، ولو في حال المرض والإعياء، ما عدا الحائض والنفساء، يقول تبارك وتعالى ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ .

أقيموا الصلاةَ لوقتِها، وأسبغوا لها وضوءَها، وأتمّوا لها قيامها وخشوعَها وركوعَها وسجودها، تنالوا ثمرتَها وبركتها وقوّتها وراحتها.

اللهم ...

الخطبة الثانية

جاءت الأدلّة الشرعيةُ الصحيحة الصريحة، ساطعةً ناصعة متكاثرةً متضافرة، على وجوب صلاة الجماعة على الرجال حَضرًا وسفرًا، يقول جل وعلا ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ .

ويقول تبارك وتعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم وهو في ساحة القتال، وشدّة النِّزال ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ .

ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "مَن سرّه أن يلقى الله غدًا مسلِمًا فليحافِظ على هؤلاء الصلواتِ حيث يُنادَى بهنّ، فإنّ الله شرع لنبيكم سُننَ الهدى، وإنّهنّ من سُنن الهدى، ولو أنكم صلّيتم في بيوتكم كما يصلّي هذا المتخلِّف في بيته لتركتم سنّةَ نبيكم، ولو تركتم سنةَ نبيّكم لضللتم، ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عنها إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتَى به يُهادَى بين الرجلين حتى يُقام في الصفّ" أخرجه مسلم

واشتدّ غضبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المتخلِّفين عن جماعةِ المسلمين، فقال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: «لقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتُقام، ثمّ آمر رجلاً يصلِّي بالناس، ثمّ أنطلِق معي برجال معهم حُزَم من حَطب إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة، فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار» متفق عليه .

تلك أدلّةٌ ونصوص لاح الحقُّ في أكنافِها، وظهر الهدَى في بيانها، ولقد أفصحَت الرسُل لولا صَمَم القلوب، ووضحتِ السُّبُل لولا كدَر الذنوب.

أيّها المسلمون، لقد كثُر المتخلِّفون في زمانِنا هذا عن صلاةِ الجماعة في المساجد، رجالٌ قادرون أقوياء يسمَعون النداءَ صباحَ مساء، فلا يجيبون ولا هم يذّكَّرون. ألسنتُهم لاغية، وقلوبهم لاهِية، رانَ عليها كسبُها، وضلّ في الحياة الدنيا سعيُها، قد انهمكوا في غوايتهم، وتغوّلوا في عمايتهم. التحفوا بسُبَّة الدهر، وتجلَّلوا بأخبث سَوأة وأشرّ، شُغِلوا عن الصلاة بتثمير كسبهم، ولهوهم ولعِبهم، ولو كانوا يجِدون من الصلاة في المساجد كسبًا دنيويًّا، ولو حقيرًا دنِيًّا لرأيتم إليها مسرعين، ولندائها مذعِنين مُهطِعين، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدُهم أنّه يجد عرقًا سمينًا أو مِرماتين حسنتين لشهِد العِشاء» متفق عليه.

يا عبدَ الله: يا مَن يأتي المساجدَ في فتور وكسَل، ويقضي وقتًا قليلاً على ملَل، أما علمتَ أنّ المساجدَ بيوت الله، وأحبُّ البقاع إليه جلّ في علاه؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «سبعة يُظلّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلّ إلا ظلُّه» ، وذكر منهم: «ورجلٌ قلبُه معلَّق بالمساجد» متفق عليه

فيا مَن يتوَانى ويتثاقل، ويتساهل ويتشاغَل، لقد فاتك الخير الكثيرُ، والأجر الوفير، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له في الجنة نُزُلا كلّما غدا أو راح» متفق عليه.

 ومن تطهّرَ في بيته ثمّ مضى إلى بيت من بيوت الله ليؤدي فريضةً من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحُطّ خطيئة، والأخرى ترفع درجة.

فاتقوا الله عباد الله، واحذَروا ما يصدّهم عن ذكر الله وعن الصلاة، من سائر الملهِيات والمغرِيات ...