العلماء والإعلام

بسم الله الرحمن الرحيم

العلماء والإعلام

مَن رام هدًى في غير الإسلام ضلّ، ومَن أراد إصلاحًا بغير الإسلام زلّ، ومَن ابتغى عِزًّا في غير الإسلام ذلّ، ومن أراد أمنًا بدون التوحيد ضاع أمنه واختلّ,نحن قومٌ أعزّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزّة في غيره أذلّنا الله

عباد الله: إن مكانة العلم غالية، ودرجة أهله عند الله عالية ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ ، فالعلماء العاملون، نجوم يهتدي بها إلى شاطئ النجاة ومستقرّ الأمان، العلماء الربانيون، هم شهداء الله المرضيّون، أمر الله تعالى بطاعتهم، وحذر النبيُّ صص من إضاعتهم ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ .

العلماء الأجلاّء هم ورثة الأنبياء، محاسنهم جمّة غفيرة، هم صمام الأمان، ومركب النجاة، هم أساس الأمة، وأعمدة المجتمع، هم السيف الصقيل على أرباب الكفر والعناد، وأهل الأهواء والبدع والفساد.

ما أحسن أثرهم على الناس وهم عنهم أغنياء، وما أسوأ أثر الناس عليهم وهم إليهم فقراء.

وقد كان من آداب السلف، توقير العلماء والتأدب معهم، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : إذا جالست العالم فلا تكثر عليه من السؤال ولا تعنته في الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تمسك ثوبه إذا نهض، ولا تفشيّن له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطلب عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك بتعظيمه وتوقيره، ما دام قائماً بأمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته.

أيّها المسلمون: لا تزال حلقاتُ الكيدِ بالمسلمين تتتابَع، ومكرُ المتربِّصين يتسارع، وقِوى الحقّ والباطل تتصارع ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ مِّنَ المُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً﴾ ويأتي الهجومُ المعلَن، والعداء المبطَّن، على الإسلام وعلمائه، وأهله وأسُسِه وثوابته، ومناهجِه وبلاده، مِن ذوي الفكر المقبوح، والتوجُّه المفضوح؛ ليؤكِّد بجلاءٍ ، أنَّ مِن بين صفوف الأمّة أدعياء أخفياءَ، كاذبون في الولاء والانتماء، سلكوا مسالكَ عدائيّة، وطرحوا أفكارًا شيطانيّة، قومٌ بُهت دنَّسوا وجهَ ما كتبوا عليه من قِرطاس، ولطَّخوه بعقائدِ الشكِّ والجُحود والوسواس. مقالاتٌ شوهاء، وكلِمات عرجاء، وحماقاتٌ خرقاء، ألسنةٌ شأنُها الإفك والخطَل، وقلوبٌ أفسدَها سوءُ العمل، يريدونَها فتنةً عمياء، ويبغونها حياةً عوجاء، نقدٌ بلا عِلم، وحوار بلا أدب، ومعالجة بلا فهم، غثٌّ فارغ، واستخفاف ماكر. أسافل قد علَت لم تعْلُ مِن كرَم، وأقزامٌ تطاولت، أقلام مأجورَة تهافَتت على الزور وتعاهدت، شراذمُ قاصرون، وشذّاذ أفّاكون, جاؤوا ببضاعة غربيّةٍ ، وحقيقتها اللادينيّة، وهدفُها إزاحة الإسلام عن الحياة بالكليّة، يدعون أمَّتهم إلى مذاهبِ الغرب، وسلوك مسالكهم في الوضع والتشريع، يلمِزون العلماءَ والصّلَحاء، ويسخرون ويستهزئون، سلِمت من ألسنتهم وأقلامهم القنواتُ الخليعة، والمجلاّت الهابِطة، ودورُ الأفلام والغناء، ولم تسلم منهم كتبُ التوحيد والعقيدة. تخبُّطٌ ظاهر، وظلمٌ جائر، وانتكاسة جليّة، وحرب عقديّة، يدعون إلى التّسامح مع كل أحد، إلا مع أهل التوحيد والسنة، ويطرحون أفكارًا تبعَث على الإثارة والشحناء، ينظرون إلى أمّتهم بازدراء، وإلى تاريخها باحتِقار، وإلى قيَمها وأخلاقها بإهانةٍ واستصغار، يدَّعون الصدقَ والإصلاح والتجديد، ويرمون غيرَهم بالرجعيّة والجمود ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً﴾ .

 أيّها المسلمون: صَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَدَّاعَةً، يُصَدَّقُ فيها الكاذِبُ، ويُكَذَّبُ فيها الصادِقُ، ويُؤتَمَنُ فيها الخَائِنُ، ويُخَوَّنُ فِيها الأَمِينُ، ويَنطِقُ فيها الرُّوَيبِضَةُ»، قِيلَ: وما الرُّوَيبِضَةُ؟ قال: »المَرءُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ في أَمرِ العَامَّةِ».

ولقد رأينا أَولَئِكَ المَأفُونُونَ، يَظهَرون وَيَبرُزُونَ، وَعَلى صَفَحَاتِ الجَرَائِدِ يَسرَحُونَ وَيَمرَحُونَ، حتى أَضَافُوا إلى ذلك َسُوءًا في الأَدَبِ، وَصَفَاقَةً في الوُجُوهِ، فَجَادَلُوا أَئِمَّةَ الهُدَى وَكَذَّبُوهُم، وَرَدُّوا على عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ وخَطَّؤُوهُم، وَسَارُوا حَسْبَمَا تُملِيهِ عَلَيهِم أَمزِجَتُهُمُ الفَاسِدَةُ، وَتَبَجَّحُوا بما تُملِيهِ عَلَيهِم شَهَوَاتُهُم العَارِمَةُ، وَأَهوَاؤُهُم الزَّائِغَةُ.

وَمِن أَسَفٍ أَنْ يُكَذَّبَ العُلَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ، وَتُنسَفَ أَقوَالُهُم وَتترَكَ فَتَاوَاهُم، وَيُصَدَّقَ أُولَئِكَ وَتُتَّبَعَ آرَاؤُهُم، وَيُؤخَذَ بِمَا يُلَبِّسُونَ. أُغَيلِمَةٌ صِغَارٌ مَا شَمُّوا رَائِحَةَ العِلمِ وَلا ذَاقُوا حَلاوَتَهُ، بقفون أَمَامَ جَهَابِذَةٍ مِن كِبَارِ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ ، مِنَ الذينَ أَفنَوا عَشَرَاتِ السِّنِينَ، في تَعلُّمِ العِلمِ وَتَعلِيمِهِ، وَتَألِيفِ الكُتُبِ فِيهِ وَالدَّعوَةِ إِلى اللهِ، لَكِنَّهَا سُنَنٌ إِلهِيَّةٌ جَارِيَةٌ، وَأَقدَارٌ رَبَّانِيَّةٌ مُحْكَمَةٌ، وَفِتَنٌ مُمَيِّزَةٌ مُمَحِّصَةٌ، لِيَتَبَيَّنَ الصَّادِقُ مِنَ الكَاذِبِ، وَيَتَمَيَّزَ الخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ، وَيَذهَبَ الزَّبَدُ جُفَاءً غَيرَ مَأسُوفٍ عَلَيهِ، وَلا يَبقَى في الأرضِ إِلاَّ مَا يَنفَعُ الناسَ.

الخطبة الثانية:

أيّها المسلمون: في زمن القَحط والجفاف، والفرقة والخلاف، وانتشار الفساد والانحرافِ، يبحَث المسلم عمَّا يكون له أُنسًا عند الوَحشة، وجلاءً عند الشّبهة، وضياءً عندَ الظلمة، ومورِدًا عند اللّهفة، وليسَ غيرُ الكتاب والسنة، بفهم سلفِ الأمّة حصنًا من المخاطر، وحِرزًا من المعاثِر، فاستمسكوا بهما، واعتصِموا بما فيهما.

أيّها المسلمون: العلماءُ هم حرّاس الأمّة، الصادقون في نصحِها، العارفون بمصالِحها، العالِمون بأدلّة الشريعة وبراهينها، ومقتضيات العقيدة ولوازِمها، وهُم أقدر النّاس على استنباط الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام، نظرُهم عميق، ورأيهم وثيق، وفكرُهم دقيق، فيه علامة التّسديد والتوفيق، فاسألوهم عمَّا أشكل، وشاوِروهم عمّا أقفل، واعرضوا عليهم ما حلّ ونزل، وإيّاكم و سؤال كلِّ منكَر أو غريب، ليس له في العلم حظ ولا نصيب، واسألوا اللهَ الهداية، واستعيذوا به من الضلال والغواية.

عباد الله: إِنَّ مَا يُنشَرُ في بعض الصُحُفِ، ممَّا يَنطقُ به الرُّوَيبِضَةُ، وَتِلكَ الرُّدُودَ، التي يَتَطَاوَلُونَ بها على الرَّاسِخِينَ مِن العُلَمَاءِ، دُونَ تَقدِيرٍ وَلا إِجلالٍ، لهو عَجَبٌ مِنَ العَجَبِ، إِذْ كَيفَ يُقَارِعُ الجُبَنَاءُ الأَبطَالَ؟! وَشَتَّانَ بَينَ الشموع وَالنُّجُومِ! لَكِنَّهَا السّنُونَ الخَدَّاعَةُ .

إِنَّ المُتَابِعَ لبعض وسائل الإعلام، لَيَرَى إِلحَاحًا وَاضِحًا مِن بعض كُتَّابِها، عَلَى النَّيلِ مِنَ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ، وَتَنَقُّصًا ظَاهِرًا لأَشخَاصِهِم وَمَا يَحمِلُونَ، وَاتِّهَامًا لهم بِالجَهلِ وَعَدَمِ التَّفَقُّهِ في الوَاقِعِ، وَتحمِيلاً لِكَلامِهِم مَا لا يَحتَمِلُهُ، وَإِذَا أَعيَتْهُمُ الحِيَلُ، وَسُدَّت في وُجُوهِهِمُ السُّبُلُ، زَعَمُوا خِدَاعًا وَتَضلِيلاً، وَإِمعَانًا في رَدِّ الحَقِّ، أَنَّ مَا يَذكُرُهُ هَذَا العَالمُ أَو ذَاكَ، لا يَعدُو أَن يَكونَ رَأيَهُ الشَّخصِيَّ، وَفَهمَهُ الذَّاتيَّ، وَكَأَنَّ أَحكَامَ الدِّينِ ،قد أَصبَحَت قَضَايَا سُوقِيَّةً، يَكتُبُ فِيهَا مَن هَبَّ وَدَبَّ، أَو آراءَ يُنَاقِشُها مَن هَرَفَ وَمَا عَرَفَ.

أيّها المسلمون: لن يكونَ للباطل نماء، ولا لأهل الزيغ بقاءٌ، ما دُمنا للحقّ دعاة، وللعالَم هداةً، وللخير بناة، ومتى كنّا آمرين بالمعروف صِدقًا، ناهين عن المنكر حقًا، فإنّ الباطلَ إلى اندحار، وأهلَه إلى انحدار، والحقّ إلى ظهور وانتشار ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ .

عباد الله: الثباتَ الثباتَ أمام ملتطَم العاديات، ومستنقَع المتغيّرات، فحثّوا المطيّ، وأرخوا من أزمَّتها، وانزعوا إلى دار لا ينصرِم نعيمُها ولا يحيل مقيمُها، واستمسِكوا بدينكم، وعضّوا عليه بنواجذكم، وانقادُوا لحُكمه، واخضَعوا لإرشادِه، تسلموا مِن الفتن، وتنجوا من المِحن، وتعيشوا سعداء، وتموتوا لدينكم أوفيَاء

أَلا فَلْيَتَّقِ اللهَ المُسلِمُونَ، وَلْيَعرِفُوا قَدرَ عُلَمَائِهِم وَلْيَحفَظُوا مَكَانَةَ مَشَايِخِهِم، فَإِنَّهُم لَن يَزَالُوا بِخَيرٍ مَا دَامُوا عَلَى ذَلِكَ، وَالأَمرُ عَقِيدَةٌ وَدِينٌ، وَالنِّهَايَةُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، وَالخَاتِمَةُ فَوزٌ أَو خَسَارَةٌ.