القناعة والرضا

بسم الله الرحمن الرحيم

القناعة والرضا

أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق تقواه، واستعدوا بالأعمال الصالحة ليوم لقاه، خافوا من الجليل، واعملوا بالتنزيل، واقنعوا من دنياكم بالقليل، واستعدوا ليوم الرحيل ﴿يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ﴾ .

أيها المسلمون: إن من سنة الله تعالى في هذا الكون، أن جعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وقدَّر أن تكون مليئة بالمصاعب والمتاعب، دائمة التغيّر والتحوّل، لا تثبت على حال، ولا تدوم على شأن، دار شقاء وعناء، متاعها قليل، وكثيرها ضئيل، لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، من استغنى فيها فُتِن، ومن افتقر فيها حزن، تذل من أحبها ، وتعمي من تبعها.

هي الدارُ دارُ الأذى والقَذَى *** ودارُ الفـَنَاء ودارُ الغِـيَرْ

فلو نلتـَهـا بحـذافِيـرهـا *** لمَتَّ ولم تَقْضِ منها الوَطَرْ

لو تفكرتم ـ عباد الله ـ فيمن حولكم من الناس ، لما وجدتم سالمًا من المصائب والمحن إلا من شاء الله، فواحد مصاب بالعلل والأسقام، وآخر مصاب بعقوق أولاده وفساد ذريته، وهذا مبتلى بسوء خلق زوجته، وهنا تاجر قد خسر تجارته، وهناك فقير يشكو سوء حالته، وهذا يجد ويجتهد ولا ينال مناه، وذاك يشقى ويتعب ولا يحصل مبتغاه.

هكذا هي الدنيا، وهكذا العيش فيها، ليس فيها راحة أبدية ولا سعادة دائمة، وإنما الراحة والنعيم المقيم، والسعادة الخالصة في قوله تعالى ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ﴾ .

سئل الإمام أحمد رحمه الله: متى الراحة؟ فقال: "عندما نضع أول رجل في الجنة .

هكذا فهم سلفنا الصالح الدنيا، وهكذا وعوا طبيعتها، وعرفوا كنهها، ولذلك تجافوا عنها، ولم يغتروا بها وبزخرفها، بل كانوا فيها غرباء مسافرين، لا يحملون معهم إلا ما يبلغهم، ممتثلين وصية إمامهم صلى الله عليه وسلم حيث قال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». ولقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم تطبيقًا عمليًا لقوله، كان مَثَلاً أعلى في القناعة، وقدوة عالية في زهده بالدنيا، كان قانعًا منها بالقليل، راضيًا منها باليسير، تلك صفته وهو أفضل عباد الله وصفوة خلقه، وهو الذي لو شاء لحيزت له الدنيا بحذافيرها، ولصيغت له جبالها ذهبًا وفضة. عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض.

أما أصحابه الكرام رضي الله عنهم، فقد كانوا على سنته سائرين، ولنهجه مقتفين، لم يبدلوا ولم يغيروا، ولم يركنوا إلى الدنيا أو يثقوا بها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصُّفَّة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، منها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.

وعنه رضي الله عنه قال: لقد رأيتني وإني لأخِرّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة رضي الله عنها مَغْشِيًا علي، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون، وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع. كانوا رضي الله عنهم، فقراء مُعْدمِين، ومع ذلك كانوا مُتعفّفين، وبما قسم الله لهم راضين ﴿يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ .

أما حال الناس اليوم إلا من رحم الله؛ فحب المادة يسيطر على القلوب، وإيثار الدنيا يهيمن على النفوس، عليها يتهافتون، ومن أجلها يتَهَارَشُون، بزيادتها عندهم وإقبالها عليهم يفتنون، وبنقص ما في أيديهم وإدبارها عنهم يحزنون، قلوب مريضة، وأفئدة هواء، تركض في الدنيا بغير عَنَان، وتملأ أيديها بغير ميزان، ينطلقون في لذائذ النفوس بلا حدود، ويسعون وراء الشهوات دون تورّع، كلما أدركوا منزلة تشوّفوا إلى ما فوقها، وكلما حصّلوا حفنة تطلعوا إلى زيادتها، تملَّكتهم مَلاذُّ الجسم والمادة، فلم يُبالوا من أي طريق أتت، وبأي وسيلة اكتسبت، يحط أحدهم من كرامته، ويذهب بعزته، يرِقّ دينه، ويخف ورعه، يرضى ويغضب، ويفرح ويحزن، وتذهب نفسه حسرات من أجل الدنيا، ومع ذلك كله لا يقنعون، ولا بما قُدِّرَ لهم يرضون.

وإن البصير ليأسى كل الأسى لأقوام مخذولين ، تنكّروا لفطرهم، وغلظ عن الله حجابهم، وأظلمت بالشكوك قلوبهم، لم تنفذ إليهم أشعة الإيمان بسكينة، ولا تسربت إليهم أنوار اليقين براحة، يظلون ساخطين شاكين من قلة أرزاقهم، لا يذوقون للسرور طعمًا، ولا يعرفون للحياة معنى، بل حياتهم سواد ممتد، وظلام متصل.

عباد الله: لقد قلّت معرفة كثير من الناس بالله، وضعفت صلتهم به، واتكالهم عليه، وأعرضوا عن طاعته واعترضوا على قدره، قلّ رضاهم بقضائه وعن حكمته، فعاقبهم سبحانه بالهموم والغموم، حتى أصبحت معيشتهم ضَنْكًا، وصارت حياتهم حزنًا وضيقًا، ونبتت فيهم الاضطرابات الاجتماعية، وظهرت فيهم الأمراض النفسية، ففزعوا إلى المهدئات والمسكنات، بل ولغوا في المخدرات والمسكرات، فما زادتهم إلا ظلمات فوق ظلمات ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾. اللهم...........................

الخطبة الثانية

أيها المسلمون، إنه لا يُذْهِب الهمَّ والغمَّ دواءٌ مثل الرضا بما قدَّر الله وقضى، فهنيئًا لمن ملأ الرضا فؤاده، لا يتحسَّر على ماض باكيًا حزينًا، ولا يعيش حاضرًا ساخطًا جَزُوعًا، ولا ينتظر المستقبل خائفًا وَجِلاً، لا يعيش في رهبة من غموض، ولا يتوجّس من جبروت، إيمانه مصدر أمانه ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ .

ألا فاتقوا الله عباد الله، وأقبلوا على طاعته، فإن في القلب شَعَثًا لا يلمّه إلا الإقبال على الله، وإن فيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وإن فيه حزنًا لا يُذْهِبه إلا السرور بمعرفة الله ، وإن فيه قلقًا لا يُسكّنه إلا الفرار إليه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، وفيه حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، والصبر على قضائه إلى يوم لقائه ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ .

يقول عليه الصلاة والسلام: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما آتاه» رواه مسلم، يقول أحدهم عن القناعة: إذا طلبت العز فاطلبه بالطاعة، وإذا أردت الغنى فاطلبه بالقناعة، العبد حر إذا قنع، والحر عبد إذا طمع.

فكر في نعم الله عليك، وكيف ساقها إليك، من صحة في بدن، وأمن في وطن، وراحة في سكن، ومواهب وفِطن، مع ما صرف من المحن، وسلّم من الفتن، واسأل نفسك في النعم التي بين يديك: هل تريد كنوز الدنيا بدلاً عن عينيك؟ وأموال قارون بدلاً من يديك؟ أو الأراضي والقصور بدلاً من رجليك؟ أو الحدائق الغناء بدلاً من أُذنيك؟ أو هل تشتري ملك الملوك بلسانك وشفتيك؟ كيف لا تقنع ومعك نعمة الإسلام، ومعرفة بالحلال والحرام، وطاعة للملك العلام؟! ثم قد أعطاك الله مالاً ممدودا، وبنين شهودا، ومهد لك في العمر تمهيدا، وقد كنت في بطن أمك وحيدا فريدا، واذكر نعمة الغذاء، والماء والهواء، والدواء والكساء، والظلام والضياء، ونعمة الهناء، مع صرف البلاء، ودفع الشقاء، والتخفيف واللطف في القضاء والابتلاء.

فاحمد ربك على العافية، والعيشة الكافية، والساعة الصافية، فكم في الأرض من وحيد وطريد، وشريد وفقيد، وكم من رجل قد غلِب، ومَن ماله سلب، وملكه قد نهب، وكم من مسجون ومغبون، ومديون ومفتون ومجنون، وكم من سقيم وعقيم ويتيم، ومن يلازمه الغريم والمرض الأليم.

فاتقوا الله عباد الله ؛ وكونوا من القانعين، لا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه راحلون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون، وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون

فمن اتقى الله وأدى واجب ما عليه من حق الله، فتح الله له أبواب الرزق، ويسر له أسباب الكسب، وجعل في قلبه القناعة والرضى، فإن المؤمن التقي ، يعيش في نفسه وأهله عيشة راضية مرضية، وحياة سعيدة زكية، قد قنعه الله بما آتاه، ومتعه به متاعاً حسناً في دنياه، ووفقه للاستعانة به على طاعته، وبذله في مرضاته.