الاستعداد للموت

الاستعداد للموت - الخطبة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستعداد للموت        18/8/1431هـ

 

الحمد لله الجليل وصفه، الجميل لطفه، الجزيل ثوابه، الشديد عقابه، الحي القيوم، الذي أوجد الكون من عدم ودبره، وخلق الإنسان من نطفة فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقبره، ثم إذا شاء أنشره، فسبحانه من إله ما أعزه وأقدره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة معترف بوحدانيته، مقر بألوهيته وربوبيته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل بريته، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه صفوة خلقه وخيرته                                  

 أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله ولا تغتروا بإمهاله وحلمه، وأصلحوا أعمالكم فإنها محصاة عليكم ومجازون عليها بحكمته وعلمه، واحذروا الدنيا فإنها كثيرة آفاتها وعللها، إن اضحكت بزخرفها قليلا، أبكت بأكدارها طويلا، انظروا من جمعها ومنعها، كيف انتقلت إلى غيره وصار عليه تعبها ومأثمها، فتفكروا في عواقب من دانت لهم الأمور، وأسكرهم الجهل والغرور، وصنعوا فيها ما اشتهوا وأرادوا، ووصلوا من أرادوا وصله، وقطعوا وعادوا، كيف هجم عليهم الموت بغتة وهم لا يشعرون، وكيف انتزع أرواحهم العزيزة وهم في غفلة نائمون.

انظروا إلى الشمس كل يوم تطلع من مشرقها ثم تغيب في مغربها، وفي ذلك أعظم العبرة ( والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ). في ( خ ) عن أبي ذر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم  في المسجد عند غروب الشمس، فقال يا أبا ذر أتدري أين تغرب؟ أتدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى: ( والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز   العليم).

إن طلوع الشمس ثم غيابها مؤذن بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وإنما هي طلوع ثم غياب ثم زوال، الهم فيها أكثر من الفرح، والسرور أقل من الحزن ( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ) يا مجتهدا في طلب الدنيا: اجعل اجتهادك للأخرى، جهزت البنات، وزوجت البنين، فأنت بماذا تجهزت للرحيل؟

 ألم تروا هذه الشهور، تُهل فيها الأهلة صغيرة كما يولد الطفل صغيرا، ثم تنمو رويدا كنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموها، واشتدت قوتها، وكبر جسمها، بدأت بالنقص إلى الاضمحلال، وهكذا عمر الإنسان سواء بسواء     ( الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير )

عباد الله: الأيام تطوى، والأعمار تقضى، كلها في حساب أعمالنا، يبدأ العام وينظر أحدنا إلى آخره  نظر البعيد، ثم تمر الأيام عجلى، فينتهي العام كلمح البصر، فإذا هو في آخره، وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد وما يدري إلا وقد هجم عليه الموت.

عباد الله: أما العبر التي توجب عند المرء اعتبارا فلا يحويها بيان، ولا تقع في حدود، كم من نكبات للمسلمين وقعت، حروب طاحنة، وقتل وتشريد، انتهاك للحقوق، وهضم للكرامات، وإماتة للفضيلة، كم مر بالأسماع خلال هذا العام من أخبار لزلازل عنيفة، وفيضانات جامحة مروعة، كلها مشعرة بعجز المخلوق وافتقاره إلى رحمة الخالق العظيم القادر، كم مر من ظروف حرجة بالأمة الإسلامية، كانت مختبرا  لصدق الإيمان، وقوة العقيدة.

 

ورد عن عائشة أنها قالت: كل عام ترذلون.  يقول العلامة ابن كثير :" وهذا الكلام وإن كان لعائشة إلا أنه صحيح واقع، يشهد له حديث النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه إلى أن تقوم الساعة ".".

يمر بالناس كل عام ما يشهد لقول الله تعالى ( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ) يمر بالناس كل عام ما يشهد لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما عند (خ) عن مرداس الأسلمي :" يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يعبأ الله بهم ".

الاستعداد للموت - الخطبة الثانية

الخطبة الثانية:

عباد الله: الدهر خطيب كاف، والفكر طبيب شاف، كم قطع زرع قبل التمام فما ظن المستحصد، من عرف الستين أنكر نفسه،من بلغ السبعين اختلفت إليه رسل المنية. كل نفس لا تدري متى تفجؤها المنية، وبأي مكان، فعلم ذلك إلى الله تعالى ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ) وهذه مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله كما قال النبي r :" خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا هذه الآية. ومنها أن كل نفس لا تدري بأي أرض تموت، هل تموت في بلدها؟ أو في غيره من بلاد الدنيا؟ هل تموت في بر أم في بحر؟ أو في سهل أو في وعر؟ ويقول r كما عند ( ت حم ) :" إذا أراد الله قبض روح عبد بأرض جعل له فيها أو قال بها حاجة ".

ولهذا من البلاء والفتنة أن يغفل الإنسان عن الموت والاستعداد له، فيقصر في الواجبات، ويقع في السيئات، تراه في أكمل أحواله صحة ونشاطا، وعافية ومالا، فلا يلبث أن يأتيه الموت فجأة، فلا يتمكن من تدارك نفسه.

  عباد الله: اعرفوا الدنيا وقد سلمتم، ثم اعملوا فيها بما علمتم، لا يغرنكم فيها الوفر، فإنكم فيها سفر، احذروها فإنها أسحر من هاروت وماروت، ذانك يفرقان بين المرء وزوجه، وهذه تفرق بين المرء وربه، إن أقبلت شغلت، وإن أدبرت قتلت.

فيا غافلا عن الموت وقد لدغه، أخذ قرينه فقتله ودمغه، تأمل صنع الله بالرأس إذ صبغه، بأي حديث ترعوي أو بأي لغة؟ كم رأيت مغرورا قبلك؟ كم شاهدت منقولا مثلك، من أباد أقرانك؟ ومن أهلك أهلك؟

عباد الله: إن إيماننا بالموت يجب أن يحملنا على أن نعيش في وجل، وأن نكون للقائه مستعدين، مطيعين لأوامر الله، منصرفين عن نواهيه، ننتظر لقاءه فرحين مسرورين، لعلمنا بأنه سبحانه أعدل العادلين، وأرحم الراحمين، يجل أن يظلم المحسنين، ويضيع عمل العاملين، أو يجعل المسلمين كالمجرمين، أما ذلك الغافل اللاهي الذي نسي الآخرة وهولها، والنار وحرها، والقبر ووحشته، فسيأتيه الموت بغتة فيلجمه، فإذا هو مبلس واجم، نعوذ بالله من ذلك، وعندئذ يقال له ( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ).