تركه مالا يعنيه

بسم الله الرحمن الرحيم

تركه مالا يعنيه

فإنّ حرصَ المرءِ على سلامةِ دينه، وحسنِ إسلامه، وصِحّةِ إيمانه، دليلٌ ظاهر، وآية بيِّنة، وبرهان شاهدٌ، على رجاحةِ عقلِه، واستقامة نهجِه، وكمالِ توفيقِه، فدينُ المسلم، هو دليلُه وقائده إلى كلِّ سعادةٍ في حياته الدّنيا، وإلى كلِّ فوز ورفعةٍ في الآخرة .

ولقد أرشَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أدبٍ جامع، وخَصلة شريفة، وخلَّة محمودة، وخُلُق كريم، وذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذيّ وابن ماجَه من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مِن حُسن إسلامِ المرء تركُه ما لا يعنيه»

وهذا الحديثُ ـ كما قال الإمام الحافظُ ابن عبد البر رحمه الله ـ مِنَ الكلام الجامِع للمعاني الكثيرةِ الجليلة، في الألفاظِ القلِيلة، وهو مما لم يقُله أحد قبلَه صلى الله عليه وسلم لأنَّ مَن حسُن إسلامه، ترَك ما لا يعنيه من الأقوالِ والأعمال، إذِ الإسلامُ يقتضي فعلَ الواجبات، وتركَ المحرمات، وإذا حسُن الإسلام، استَلزَم ذلك تركَ ما لا يَعني من المحرَّمات والمشتبِهات، والمكروهات وفضولِ المباحات، فإنَّ هذا كلَّه لا يَعني المسلمَ، إذا كمُل إسلامه، وبَلغَ درجةَ الإحسان الذي أوضَحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقتَه، فقال: «الإحسان أن تعبدَ الله كأنّك تراه، فإن لم تكُن تراه فإنّه يراك» أخرجه مسلم .

قال ابن رجب رحمه الله: وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني، حِفظُ اللسان، من لغو الكلام .

وقال أبو الدرداء: من فقه الرجل قلّة كلامه فيما لا يعنيه .

وقال: تعلموا الصمت كما تتعلمون الكلام، فإن الصمت حكم عظيم، وكن إلى أن تسمع، أحرصَ منك إلى أن تتكلّم، ولا تتكلّم في شيء لا يعنيك، ولا تكن مضحاكًا من غير عجب، ولا مشّاءً إلى غير أرب.

ومَن عبَد الله على استحضار قُربِه من ربِّه، أو قربِ ربّه منه فقد حسُن إسلامه، ولزِم من ذلِك أن يترك كلَّ ما لا يعنِيه ، واشتَغَل بما يعنيه من صحّةِ اعتقادٍ، وكمال إيمان، وصلاحِ عملٍ، وطَلَب ما هو من ضروراتِ معاشه مِن ألوانِ المباحات، وعلى العكسِ مِن ذلك، من أضاعَ نفائسَ الأوقات فيما لم تُخلَق له، باشتِغاله بما لا يَعنيه، فانصَرَف به عمّا ينفعه، ويرتفِع بمقامِه، ويبلُغ به صحيحَ الغايات، وشريفَ المقاصد، وكريمَ المنازِل، فقد خسِر هنالك خسرانًا مبينًا.

ألا وإنَّ من اشتغال المرءِ بما لا يَعنيه، عدَمُ حِفظ اللسان عن لغوِ الكلام، وعن تتبُّع ما لا يهمّ ولا ينفَع تتبُّعه، من أخبار الناسِ وأحوالهم، وأموالهم ومِقدارِ إِنفاقهم وادِّخارهم، والتنقيبِ عن أقوالهم وأعمالهم، داخلَ دورهم وبين أهليهِم وأولادهم، بغَير غرضٍ شرعيّ .

ومن ذلكَ أيضًا تكلُّمُ المرء فيما لا يحسِنه ولا يتقنه، ممّا لم يعرَف له تخصّصٌ فيه، ولا سابِق إلمامٍ أو خِبرة به، وما ذلك إلاّ لطلبِ التسلِّي وإزجاءِ الوقتِ وإضاعتِه، وتصدُّرِ المجالس، وصرفِ الأنظار إليه، وقد يخرُج به ذلك إلى الخوضِ فيما لا يجوز الخوضُ فيه، من أحاديث الفواحشِ والشّهوات، ووصفِ العورات، وقذفِ المحصَنات المؤمناتِ الغافلات، ونشرِ قالَةِ السوءِ، وبَثِّ الشائعاتِ والأكاذيب، والأخبارِ المفتَريَات، وقد يجتَمع إلى ذلك وَلعٌ بما يسمَّى بالتّحليلات والتوقُّعات، المبنيَّةِ في غالبها على الظنونِ والأوهام.

ألا وإنَّ مما يعين على تركِ المرء ما لا يَعنيه، تذكّرَ أنَّ الواجباتِ أكثرُ من الأوقات، وأنَّ العمرَ قصير كما أخبر بذلك رسول الهدَى صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذيّ من حديث أبي هريرةَ وأنسٍ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعمارُ أمّتي ما بين السّتِّين إلى السّبعين، وأقلُّهم من يجوز ذلك» فمِثل هذا العُمر الذي لا يكاد يتَّسِع لما يلزَم ويجِب، أفيَتَّسع للفضول وما لا يعني؟! وإن فيما كُلِّف به الإنسان من الواجبات، وما نُدِب إليه من المستحبات، شغلاً شاغلاً عما لا يعنيه، فعساه أن يقوم بما يُطلب منه، ويتزود مما نُدِب إليه.

ومَا يلفِظ الإنسان من قولٍ إلاّ وهو مسطَّر في صحائِفِه مجزيٌّ به ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ .

وقد أخرَج مالك وغيره عن علقمةَ الليثيّ عن بلال بن الحارث رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الرجلَ ليتكلّم بالكلمةِ من رضوان الله تعالى، ما يظنُّ أن تبلغَ ما بلغت، يَكتب الله بها رضوانَه إلى يوم يلقاه. وإنّ الرجلَ ليتكلَّم بالكلمةِ مِن سخَط الله تعالى، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلَغَت، يكتُب الله عليه بها سخَطَه إلى يوم يلقَاه»، فكان علقمةُ الليثيّ يقول: كم من كلامٍ قد منَعَنِيه حديثُ بلال بن الحارث.

الخطبة الثانية:

قال الحسن البصري رحمه الله "من علامةِ إِعراض الله عن العبدِ أن يجعلَ شغلَه فيما لا يَعنيه" فعلى العاقلِ الذي يرجو الله والدارَ الآخرة، أن يكونَ مقبِلا على شأنه، حافظًا للسانِه، بصيرًا بزمانه، وأن يعُدَّ كلامه من عملِه، فإنَّ مَن عدَّ كلامَه من عمَلِه قلَّ كلامُه إلاّ فيما يَعنيه؛ عندها يسمو مقامُه، ويعلو قدرُه، وتشرُف منزلته، وتطيب حياتُه، وتحسُن عاقِبته.

يقول مورق العجلي: أمرٌ أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة لم أقدر عليه، ولست بتاركٍ طَلَبَه ما بقيت، قالوا: وما هو؟ قال: الكفّ عما لا يعنيني.

ولقد وصف الله عباده المؤمنين فقال ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾ وفي إعراضهم عن اللغو وعن مجالسه، إشارة إلى ابتعادهم عن الاشتغال بما لا يعنيهم، وهو مُستلزِم لانشغالهم بما يعنيهم.

عباد الله: كم من مجالس عقدت، وولائم نصبت، وليالٍ قد مضت، كلها على كلام لا حاجة للإنسان فيه، بل عليه وزره، وإن المرء ليعجب من حبّ الناس للحديث في أمور لاتعنيهم

يقول أحد السلف :أنصِف أذنيك من فمك، فقد جعل الله لك أذنين وفمًا واحدًا؛ لتسمع أكثر مما تقول.

قيل لبعضهم : ما حكمتك ؟ ، قال : لا أسأل عما قد كفيت ، ولا أتكلف ما لا يعنيني ، قال آخر : استحي من الله على قدر قربه منك ، وخَفِ الله على قدر قدرته عليك . و إذا تكلمتَ فاذْكُر سَمعَ اللهِ لك ، وإذا سكتَّ فاذكر نظره إليك .

وقال الإمام مالك: "لا يفلح الرجل حتى يترك ما لا يعنيه ويشتغل بما يعنيه، فإذا فعل ذلك يوشك أن يفتح له قلبه". وَقَدْ قِيلَ : لا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُرَى إلا سَاعِيًا فِي تَحْصِيلِ حَسَنَةٍ لِمَعَادِهِ، أَوْ دِرْهَمٍ لِمَعَاشِهِ.

واعلموا أن الضابط في معرفة المرء ما يعنيه وما لا يعنيه، إنما هو الشرع المطهر، لا هوى النفس ورغباتها، أو تأثير الآخرين ونظرياتهم، أو ما يفهمه كثير من الناس اليوم عما يُسمّى بالحرية الشخصية، فإن هناك شؤونًا للآخرين وهي تعني الإنسان مباشرة، وسيُسأل عنها: لِمَ تركها وأغفلها؟ ومن ذلك ما كان من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».

فاتقوا الله عباد الله، وكونوا على حذر مما تقولون، فإن الله لا تخفى عليه خافية ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ .