حلقات التحفيظ

بسم الله الرحمن الرحيم

حلقات التحفيظ

عباد الله: إذا كان الأنبياء السابقون عليهم السلام، قد أوتوا من المعجزات ما آمن عليه البشر في وقتهم، ثم انتهت هذه المعجزات بموتهم، وفناء أقوامهم، فإن الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم ظل وسيظل معجزة يدركها اللاحقون بعد السابقين، وتلك معجزة تتناسب وطبيعة هذا الدين، الذي أراد الله له أن يكون آخر الأديان، وتتناسب مع الكتاب الذي أراد الله أن يكـون آخر كتاب ينزل من السماء، يقول صلى الله عليه وسلم في ذلك كما في (خ م) من حديث أبي هريرة «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» .

و لما كان العرب أرباب الفصاحة والبيان، نزل القرآن ليتحداهم جميعا، إنسهم وجهنم ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ .

عباد الله: لقد نفذ القرآن الكريم إلى قلوبهم وهم بعد على الكفر، ومازال يؤثر فيها حتى قاد أصحاب البلاغة إلى الهدى والإيمان، يقول جبير بن مطعم وكان من أكابر قريش وعلماء النسب فيها: "قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وذلك في وفد أسارى بدر، وسمعته يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ﴾ قال: كاد قلبي يطير ، وفى رواية "كان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي" .

ولما رأت قريش انتشار الإسلام، اختارت أحسن رجالاتها، ليكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء أبو الوليد عتبة بن ربيعة، وكلم النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا، وهو صلى الله عليه وسلم منصت له، فلما فرغ قال صلى الله عليه وسلم : «أفرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم، قال: أنصت»، فقرأ عليه مطلع سورة فصلت، حتى بلغ قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ فأمسك عتبة على فم النبي صلى الله عليه وسلم وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله، واحتبس عن قريش فترة. وفي بعض الروايات أنه جاء إليهم، فقال بعضهم لبعض : نُقسم، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك ؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، قالوا: سحرك يا أبا الوليد بلسانه .

وكان للقرآن أثره البالغ حتى على أفئدة قساوسة النصارى ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ .

بل تأثر به مردة الجان، الذين كانوا قبل نزوله يسترقون السمع، فقالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً

وإذا كان هذا منطق الجن تجاه القرآن، فللملائكة كذلك شأن معه، ففي (خ) عن أسيد بن حضير قال : بينما هو يقرأ القرآن من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس، فسكت فسكتت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت فسكتت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبا منها، فأشفق أن تصيبه، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له صلى الله عليه وسلم : «أقرأ يا ابن حضير. أقرأ يا ابن حضير» ، قال : فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبا، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها قال صلى الله عليه وسلم : «وتدرى ما ذاك؟» قال : لا، قال صلى الله عليه وسلم : «تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو أنك قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى عنهم» .

عباد الله: لقد خرّج القرآن جيلا مميزا في التاريخ،استقوا من نبعه، وتأدبوا به، لم يكن ذلك الجيل يقرأ القرآن بقصد الثقافة والاطلاع،إنما كان يتلقى القرآن ليعمل به في نفسه، وفي مجتمعه الذي يعيش فيه، أما حال الكثير منا مع القرآن، حال البخلاء، يمر الأسبوع على بعضنا أو الشهر، وهو لم يقرأ سطرا واحدا من القرآن، ولربما يمضي على بعضنا الشهور لم يقرأ فيها شيئا من القرآن، ولقد شكا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه من هجر قومه للقرآن: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً﴾.

وإن من عجيب حال الكثيرين منا تقصيرهم في تلاوة كتاب ربهم، وتدبره والعمل به، مع علمهم بفضله وأجره. قال أمير المؤمنين عثمان: والله لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل أ.هـ

ويقول الحسن البصري: إلزموا كتاب الله، وتتبعوا ما فيه من الأمثال، وكونوا فيه من أهل البصر، ثم قال: رحم الله عبداً عرض نفسه وعمله على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله حمد الله وسأله المزيد، وإن خالف كتاب الله أعتب نفسه فيرجع من قريب أ.هـ

فما لنا يا عباد الله: عن كتاب ربنا معرضين، وعن تدبره غافين، وبه غير مكترثين، فلننظر إلى عظمته في نفوسنا، وكم قلت، ولنتأمل مواضع أقدامنا، فعن تقفي تعاليمه قد زلت، ولنتفقد ألسنتنا، فمن ترداده قد ملت.

فينبغي للمؤمن أن يجعل القرآن والسنة، دليله على كل خلق حسن جميل، وأن يكون حافظا لجميع جوارحه عما نهي عنه، إن مشى فبعلم، وإن قعد فبعلم، يجتهد ليسلم الناس من لسانه ويده، لا يجهل، وإن جهل عليه حلم، لا يظلم، وإن ظلم عفا، لا يبغي على أحد، وإن بغي عليه صبر، يكظم غيظه، ليرضي ربه ويغيظ عدوه، ألزم نفسه الواجب، فحذر مما حذره مولاه الكريم، ورغب فيما رغبه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن، وعند استماعه من غيره، كان القرآن له شفاءً، فاستغنى بلا مال، وعز بلا عشيرة، وأنس مما يستوحش منه غيره.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: إن كتاب الله عصمة لمن اعتصم به، وهدى لمن اهتدى به، وغنى لمن استغنى به، ونور لمن استنار به، وحرز من النار لمن اتبعه، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين. فوبى لهؤلاء الشببة الأخيار، الذين ألزموا أنفسهم بيوت الله، تراهم تحت السواري جالسين، وللمصحف ممسكين، ولكلام ربهم تالين، خرج (م) من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبا المنذر: أي آية من كتاب الله عز وجل معك أعظم؟ قلت: الله ورسوله أعلم،ثم قال: أبا المنذر أي آية من كتاب الله عز وجل معك أعظم؟ قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، قال: فضرب في صدري وقال: ليهنك العلم أبا المنذر، ليهنك العلم أبا المنذر».

ونحن نقول: إذا تفاخر أهل الدنيا بدنياهم، وإذا تفاخر أهل المال بأموالهم، وإذا تفاخر أهل الجاه بجاههم، فحق لكم أن تفخروا بما في صدوركم من كلام ربكم، وليهنكم العلم، وليهنكم العلم.

عبد الله: قل لي بربك: أهؤلاء الشببة خير، أمن ذهب وراء الأفكار المنحرفة، والمناهج المضلة، لم يتفقهوا في الدين إلا قليلاً، فرأوا حمل السلاح، دون أن يستشيروا أهل العلم والفقه، بل ركبوا رؤوسهم وأثاروا فتنة عمياء، وسفكوا الدماء.

فاتقوا الله أيها الشباب في أنفسكم، لا تكونوا فريسة للشيطان، يجمع لكم بين خزي الدنيا وعذاب الآخرة، واتقوا الله في الدماء المعصومة، والأموال المحترمة، أفيقوا من سباتكم، وانتبهوا من غفلتكم، ولا تكونوا مطية للإفساد في الأرض .

فنسأل الله أن يهدي ضال المسلمين،وأن يرد كيد الأعداء والمغرضين،وأن يجنبا الفتن ما ظهر منها وما بطن،وأن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من العابثين،اللهم أعز الإسلام والمسلمين،ودمر أعداء الدين، وانصر......