سوء الظن والتثبت في الأخبار

بسم الله الرحمن الرحيم

سوء الظن والتثبت في الأخبار

الحمد لله المتوحد بالعظمة والجلال، المتصف بصفات الكمال، المنزه عن الأشباه والأمثال، أحمده سبحانه وأشكره شكرا يزيد النعم ويحفظها من الزوال، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله أنقذ من الضلال، وهدى إلى أشراف الخصال، أمر بالتثبت وحذر من سوء الظن في الأقوال والأفعال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل أما بعد:

فيا عباد الله: عليكم بتقوى الله عز وجل عظموا أمره، واحذروا سخطه، زكوا أعمالكم، واحفظوا جوارحكم، واشتغلوا وتشاغلوا بما فيه نفعكم، واجتماع أمركم.

عباد الله: إن للناس مجالس يتجاذبون فيها أطراف الحديث، شئونا وشجونا، يأمن بعضهم بعضا، ويأنس بعضهم ببعض، صدور منشرحة، وسرائر صافية، ونوايا حسنة، ثم يندس بين هؤلاء من يتتبع السقطات، ويفرح بالهفوات، ليتندر بهذا، ويشي بذاك، وقد يكون عنده فضل مال يستريح في ظلاله، فلا هم له إلا التسلي بشئون الآخرين وأشيائهم، استطالة وتهكما، وازدراء وتنقصا، همزا ولمزا، ونبزا وغمزا ﴿هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ إن صاحب الهوى والأغراض، لا يجد متنفسا لما في صدره، إلا بتلفيق الأكاذيب، وتزوير الأخبار، متنصلا عن المسئولة، مبتعدا عن شرف أمانة الحديث، وحفظ حقوق المسلمين.

عباد الله: الهوى ما خالط شيئا إلا أفسده، يُخرج العالم من السنة إلى البدعة، ويوقع صاحب الزهد في الرياء والسمعة، يجر الحاكم إلى الظلم والصد عن الحق، وإذا وقع الهوى في الأخبار والأقوال، كان مطيتُها إلى الكذب وسوء الظن ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ .

عباد الله: إن في المجتمع مجالس ومنتديات، ومواقع وساحات،

 لا هم لأصحابها إلا القيل والقال، والخوض فيما لا يفيد، يتناقلون الأحاديث دون وعي أو تثبت، يلصقون بهذا ما ليس فيه، ويظنون بذاك ظن السوء، مطيتهم في ذلك قالوا وزعموا، وبئس مطية القوم زعموا، إذا ضعف الوازع، تجرأ المرء على الاستخفاف بالحرمات، وقل عنده احترام الناس، واستمرأ الكذب، واتخذ من الشبهات مطايا، بل قد لا يتورع أن يدلي بشهادات كاذبة، وأقوال ملفقة، فهو قليل المروءة، صفيق الوجه، يفرح بالكلمة السيئة ليشيعها في الناس، من غير نظر في العواقب، بهذا وأمثاله تشيع البلبلة، وتسري الظنون والقلاقل، وتعيش الأمة في حدس وتخمين، مما يهدد مصالح الجماعة، وينشر الوساوس والمخاوف، ويؤدي إلى اضطراب الأحوال، بل قد يقود إلى الاستهانة بالكرامات، والاعتداء على الأنفس والأموال، والوقوع في الأعراض، وقتل المعنويات.

عباد الله: إن السماح بانتشار الشائعات، وقبول كل خبر، يولد التحسس، وينبت التجسس، ويجر إلى تتبع العورات، والتطلع إلى السوءات، ذلك أن الباطل إذا كثر ترديده، وطال التفكير فيه، انقلب عند الناس في حكم الحق، وحينئذ تقع الواقعة على المتهمين المظلومين، ولعل هذا من الحكم في النهي عن التجسس، بعد الأمر باجتناب الكثير من الظن في قوله سبحانه ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا﴾ ومن الحكم في هذه الآية، الأمر باجتناب كثير من الظن لأن بعض الظن إثم، فيجتنب الكثير من أجل منع القليل، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث» إن الظنون السيئة تنشأ عنها المكائد، والطعن في الأنساب والأعراض، بسببها تُنْصب حبال المكر وشباك الخديعة، فتحصل الفرقة والشحناء، ويتمكن الأعداء، تطغى الأنانية، وتنتزع الثقة، وتسود العداوة.

عباد الله: كم أدى سوء الظن وعدم التثبت في الأخبار، إلى أهوال ما بعدها أهوال، أزهقت نفوس، وضاعت أموال، وشتت أسر، وخربت بيوت، وقطعت أرحام، إن التعجل وعدم التأني في القضايا، يفسد على أهل العقول عقولهم، ويذهب برويتهم وتفكيرهم، فيصبح العيش مريرا، وتصبح الحياة سعيرا، فلا بد من التؤدة والثبات، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، وتنزلق في مجاهل الحوادث والأحداث ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ .

عباد الله: إن الشجاعة كل الشجاعة، والبطولة حق البطولة، حين يملك المرء نفسه في مثل هذه المقامات، يملك الزمام أن يفلت بسبب كلمة طائشة من أحمق، أو وشاية مغرضة من حاقد. وإن حق المؤمن يا عباد الله أن يحمى ظهره وعرضه، وتصان كرامته ومعنويته، إلى أن يتبين ما يستحق عليه المساءلة والمؤاخذة.

 الخطبة الثانية

عباد الله: ينبغي أن يسود حسن الظن بالمؤمنين، والاطمئنان إلى طويتهم، والثقة بحسن نواياهم، وتغليب جانب الصدق في أقوالهم، والخير في تصرفاتهم، ما دامت أحوالهم الظاهرة مأمونة، والمساوئ مستورة، فا حفظ يا عبد الله يدك ولسانك وسائر جوارحك، عن أذى الناس، ولا تبع دينك بعرض من الدنيا قليل، ولا تبغ الفساد في الأرض، فتكن أفاكا أثيما، كن مصدر خير ونفع وبر وإحسان، واعلم أن مجامع الأخلاق، ولب المحاسن، أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، والمؤمن يقول خيرا أو ينمي خيرا، وقد قيل: إذا رأيتم المؤمن صموتا وقورا، فقد سلك مسالك الحكمة. والمسلمان يجلسان بأمان الله، فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكره بغير حق، ومن رزق حياء مع قلة أذى، وصلاحا مع قلة كلام، وعملا مع قلة فضول، فقد أوتي محاسن الأخلاق.

عباد الله اعلموا أن من تتبع عورات الناس، وتلمس معا يبهم، كشف الله ستره، وفضح عورته، يقول الإمام مالك رحمه الله: أدركنا قوما لم تكن لهم عورات، فذكروا عيوب الناس، فذكر الناس لهم عيوبا، وأدركنا أقواما كانت لهم عيوب، فكفوا عن عيوب الناس، فنسيت عيوبهم. شاهد هذا يا عباد اله ما خرجه (حم ، د) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه مرفوعا: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا الناس، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته» وفي لفظ «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تذموا المسلمين ولا تؤذوهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من يطلب عورة أخيه المسلم، يهتك الله ستره، ويبدى عورته، ولو كان في ستر بيته».

عبد الله: لتعلم أن الاشتغال بالطعن في الناس وذكر نقائصهم، والتسلي بالخوض في معا يبهم، وإفشاء مقالة السوء بينهم، من طبائع النفوس الشريرة، والصدور الحاقدة، وهو من أظهر الدلائل على قلة التوفيق، والانشغال بما لا يفيد، وليكن حظ أخيك منك ثلاثا، إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه.

اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ونسألك كلمة الحق في الرضى والغضب ونعوذ بك أن تقول زورا أو نغشى فجورا أو نتكلف ما لا يعنينا