عرفة والعيد والأضحية

بسم الله الرحمن الرحيم

عرفة والعيد والأضحية

ففي هذه الساعة يجتمع الحجيج في صعيد عرفات، فترى الجموع من الحجيج وقد تذللوا لله خالقهم، وقفوا لمناجاته وسؤاله، انطرحوا بين يديه سائلين مستغفرين، فلا ترى إلا الوجوه الخاشعة، والأيدي المرتفعة، ولا تسمع إلا أنات المنيبين، وزفرات التائبين، وابتهالات المستعطفين، رفعوا أكفهم لمولاهم، وسألوه بلا واسطة ولا معين، وأفاضوا في سؤال ربهم من صلاح الدنيا والدين، وطلب عاقبة المتقين، فهنيئاً لهم شهود هذا الموقف العظيم. إن للوقوف بعرفة مكانة في الإسلام ولم لا ؟ وفيها تسكب العبرات ، وتقال العثرات ، وتستجاب الدعوات ، وتغفر السيئات ، إنه لمشهد عظيم يصعب وصفه ، وموقف كريم طوبى لمن وقفه ، مخلصاً لربه ، مستناً بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .

في عرفة أكمل الله الدين وأتم النعمة، وفي عرفة يعتق الله من شاء من عبيده من النار ، أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو يتجلى ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء» .

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : يوم عرفة يوم المباهاة ، قيل لها وما يوم المباهاة ؟ قالت : ينزل الله يوم عرفة إلى السماء الدنيا ، ثم يدعو ملائكته ويقول انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً ، بعثت إليهم رسولاً فآمنوا به ، وبعثت إليهم كتاباً فآمنوا به ، ويأتوني من كل فج عميق ، سألوني أن أعتقهم من النار ، فقد أعتقتهم .

وقد كان السلف الصالح يتعلقون بأذيال الرجاء في ذلك اليوم ، قال ابن المبارك : جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تهملان ، فقلت له : من أسوأ هذا الجمع حالاً ؟ قال : الذي يظن أن الله لا يغفر لهم .

وإني لأدعـو الله أطلب عفوه *** وأعلم أن الله يعفـو ويغفر

لئن أعظم الناس الذنوب فإنها *** وإن عظمت في رحمة الله تصغر

نحن اليوم في يوم عرفة، هذا اليوم العظيم، والمشهد الكريم، الذي سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامه فقال: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده» مسلم. ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة منفرداً ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده» لكن إذا صادف يوم الجمعة يوم عرفة، فصامه المسلم وحده فلا بأس بذلك؛ لأن هذا الرجل صامه لأنه يوم عرفة، لا لأنه يوم جمعة. وكذلك لو صادف يوم الجمعة يوم عاشوراء فصامه، فإنه لا حرج عليه أن يفرده؛ لأنه صامه لأنه يوم عاشوراء لا لأنه يوم الجمعة. وهذا ما أفتى به الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله .

عباد الله: يوم عيد الأضحى من أفضل أيام العام، بل قال بعض العلماء: إنه أفضل الأيام على الإطلاق لقوله صلى الله عليه وسلم : «إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر» (د) وفيه تجتمع أهم أعمال الحجيج، ففيه يرمون جمرة العقبة، ويطوفون بالبيت طواف الإفاضة، ويحلقون رؤوسهم، ويذبحون هداياهم، ويبقون في منى، أما غير الحجاج فإنهم يصلون العيد، ويذبحون أضاحيهم، ويكبرون ويحمدون.

وذهب جمع من المحققين إلى أن صلاة العيد واجبة على الأعيان، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يقول: صلاة العيد واجبة على الأعيان، يقول الشيخ محمد بن عثيمين: صلاة العيد فرض عين على الرجال على القول الراجح من أقوال أهل العلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها وواظب عليها حتى أمر النساء العواتق وذوات الخدور والحيض، بالخروج إليها وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى. ا.هـ.

ويستحب للمصلي يوم العيد، أن يأتي من طريق و يعود من طريق آخر، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ففي البخاري عن جابر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق". ويستحب له الخروج ماشياً إن تيسر، ويكثر من التكبير حتى يحضر الإمام.

ومن شعائر يوم العيد ذبح الأضاحي تقرباً إلى الله عز وجل ، قال السعدي رحمه الله: ليس المقصود منها ذبحها فقط، ولا ينال الله لحومها ولا دماؤها لكونه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها والاحتساب والنية الصالحة، ولهذا قال ﴿وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ﴾ ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر، وأن يكون القصد وجه الله وحده، لا فخراً ولا رياء ولا سمعة ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله كانت كالقشر الذي لا لُب فيه، والجسد الذي لا روح فيه. اهـ.  اللهم ...

الخطبة الثانية

فإن ذبح الأضحية مشروع بإجماع العلماء، وصرح البعض منهم بوجوبها على القادر، وجمهور العلماء على أنها سنة مؤكدة، يكره للقادر تركها، وكان صلى الله عليه وسلم يقول يوم النحر كما في الصحيحين: «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا» وقال كما في البخاري عن أنس «من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين»

وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها، حتى ولو زاد عن قيمتها، وذلك لأن الذبح وإراقة الدم مقصود، فهو عبادة مقرونة بالصلاة كما قال سبحانه ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ وعليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولو كانت الصدقة بقيمتها أفضل لعدلوا إليها.

وقد ذكر أهل العلم، أن الأصل في الأضحية أنها للحي، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يضحون عن أنفسهم وأهليهم، خلافاً لما يظنه البعض من العامة، من أن الأضحية خاصة بالأموات .

قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : لا نرى أن تخصيص الميت بالأضحية من السنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضح عن عمه حمزة، وهو من أعز أقاربه عنده، ولا عن أولاده الذين ماتوا في حياته، وهن ثلاث بنات متزوجات وثلاثة أبناء صغار، ولا عن زوجته خديجة، وهي من أحب نسائه، ولم يرد عن أصحابه في عهده أن أحداً منهم ضحى عن أحد من أمواته.

أيها المسلمون: ويشترط في الأضحية أن تكون مما عينه الشارع، وهو الإبل والبقر والغنم، وأن تبلغ السن المعتبرة شرعًا؛ وهو خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة في المعز، وستة أشهر في الضأن.

ويشترط فيها أن تكون سالمة من العيوب، فلا تجزئ العَوْراء البَيِّن عَوَرُها، ومن باب أولى العمياء، ولا المريضة البين مرضها الذي يُقعدها عن الرعي، ولا العرجاء البين ظَلَعها، ولا الهزيلة. والحاصل أن المسلم ينبغي له أن يُعنى باختيار الأضحية، فيحرص على أكمل الأضاحي في جميع الصفات، وكلما كانت الأضحية أغلى وأكمل فهي أحب إلى الله وأعظم لأجر صاحبها، قال شيخ الإسلام: "والأجر في الأضحية على قدر القيمة مطلقًا" اهـ.

ومن شروط صحة الأضحية: أن تكون مملوكة للمضحي أو مأذوناً له فيها من صاحبها، فلا تصح الأضحية بالمسروق ونحوه، فالله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، ومن الشروط أن يضحي في الوقت المحدد للأضحية شرعاً وهو من بعد صلاة العيد إلى غروب الشمس في اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة.

واعلموا رحمكم الله أن الأضحية الواحدة من الغنم تجزئ عن الرجل وأهل بيته، ويجزئ سبع البدنة أو البقرة عما تجزئ عنه الواحدة من الغنم، وتصح الأضحية ممن أخذ من شعره أو أظفاره في أيام العشر، ولا شيء عليه إن فعل ذلك ناسياً أو جاهلاً أو لم يكن ينوي أن يضحي إلا بعد دخول العشر.