الحور بعد الكور

الحور بعد الكور - الخطبة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحور بعد الكور

11/8/1431هـ(غ)

 

فقد كان الناسُ قبلَ الإسلام، في جاهليّة جهلاء، وفتنةٍ مضِلَّة عمياء، يهيمون في الفِتن حَيارى، ويخوضون في الأهواءِ سُكارى، يتردَّدون في بحارِ الضلال، ويجولون في أوديةِ الفساد والانحلال، فبعثَ الله محمّدًا  هاديًا إلى دينِ الإسلام، وداعيًا إلى دارِ السّلام، فبلَّغ عن ربِّه رسالاتِه، وبيَّن المرادَ عن آياته، حتى أسفر الحقُّ عن محضِه، وأبدى الليلُ عن صُبحِه، وانحطّت به أعلامُ الفُرقةِ والشِّقاق، وانهشمت به بيضةُ أهل الزيغ والنِّفاق ، وما ماتَ  حتّى أدّى ما عليه، وقضى ما عُهِد إليه، وترك أمّتَه على شريعةٍ غرّاء، ومحجّةٍ نقيّة بيضاء، ومنهَج كاملٍ وضّاء .

ولم يزل الأئمّةُ والعلماء متمسِّكين بسنته ، منافِحين عنها حتى استحالَت ذَنوبُ الإسلام بأيدِيهم غَربًا، وصدَر الناسُ بعَطَن، وأعزّ الله بهم دينَه، فَحفِظوا شَريعتَه، وأقاموا أوامرَه وشعائِرَه، ومنَعوا كلّ أمرٍ فيه تذرُّعٌ إلى نقضِ عُراه، أو هَدمِ قاعِدته ومَبناه، وقطعوا طرُقَ التغيير من كلِّ جِهاتها، وأوصَدوا جميعَ أبوابها ومَنافِذِها، ولم يدَعوا للباطِل علَمًا إلا وَضعوه، ولا رُكنًا إلا ضَعضَعوه، بذلوا النفوسَ في إظهار الدين العظيمِ، وجاهدوا من زاغ عن الصّراط المستقيم ،وراغ عن المذهبِ القويم،نشروا السنّةَ والكتاب، وأظهروا الفروضَ والآداب، يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "سنَّ رسولُ الله  وولاةُ الأمر من بعده سُننًا، الأخذُ بها اعتصامٌ بكتابِ الله، وقوّةٌ على دينِ الله، ليس لأحدٍ تبديلُها ولا تغييرها، ولا النظرُ في أمرٍ خالفها، مَن اهتدى بها فهو مهتدٍ، ومن استنصَر بها فهو منصور، ومن تركَها واتّبع غيرَ سبيل المؤمنين ولاّه اللهُ ما تولَّى وأصلاه جهنَّمَ وساءَت مصيرًا".

أيها المسلمون: ثم بَعُد الزمانُ عن عهد النبوّة، وتقادم العهدُ بنورِ الرسالة، وخَلَف خلوفٌ يهتدون بغير هديِه  ويستنّون بغير سنّتِه، ويسلكون غيرَ طريقَتِه، في زمنٍ عادت فيه أعلامُ الدين إلى الدّروس، وغلب على أهلِ الزمان العصيانُ وهَوَى النفوس، وخرَج أكثرُهم بسفاهةِ عقولهم، وضَعف تمييزهم، من نورِ الطاعةِ إلى ظُلمةِ الفجور، وامتَطوا ظهرًا لا ينجو راكبُه، ولا يُفضي إلى نُجحٍ صاحبُه، فهو بين هلاكٍ يُرهِقه، وأشراكٍ توثقُه وتوبِقُه، أوسَعَهم الشيطان تسويلاً، واستهواهم تغرِيرًا وتضليلاً، طردوا العافيةَ عن دُورهم، وأنزَلوا الفِتنَ في جِوارهم، صَمّوا عن النّذير، وعَموا عن العِظةِ والتذكير، وغطَّتِ الغفلةُ على سمعهم وأعيُنِهم، وحالت بين قلوبهم وصدورِهم، ضعفٌ في اليقين، وخفقةٌ من الدّين، ورِقّةٌ ولين، فِتنٌ قد انعقد غمامُها، وادلهمَّ ظلامُها، وتلاطمت أمواجُها، تأخذ كلَّ من استشرَف إليها إلى الوَرا ، وتُرجِعه القهقرَى،  يقول  كما عند مسلم (بادِروا بالأعمالِ فِتنًا كقِطَع الليل المظلم، يصبِح الرجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دينَه بعَرَضٍ من الدنيا زائل )

عباد الله: إن من أعظم خصال المسلم الحق، وأجلّ مميزاته، الثبات على دينه، والمحافظة على أخلاق نبيه  دون أي تذبذب فيه، أو انحراف عنه، لشبهة عارضة، أو شهوة جامحة، أو فتنة بين الناس شائعة، فإن التذبذب بين الحق والباطل، وترك السنة الثابتة بعد التخلق بها، ليس من شأن أهل الإيمان، بل هو من شأن ذوي النفاق والكفران، الموصوفين في محكم القرآن، بالتناقص يبن الأقوال والأعمال، والتقلب في سائر الأحوال وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلاْخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرٰنُ ٱلْمُبِينُ

أما المؤمن الحق، فإنه يكون مغتبطـًا بإيمانه بالله، محققـًا لعبوديته لله، والاتباع لنبيه  معتدًا بإيمانه وعقيدته، لا يقبل الذلة في دينه، ولا المداهنة في عقيدته، ولا المساومة على أخلاقه وقيمه، بل يلازم الحق في كل حال، ويحارب الباطل وأهل الضلال، ويرد الباطل على من جاء به كائنًا من كان، لا ينقاد لهوى باطل ، ولا يتابع غيره على خطأ، لعلمه أن للناس أهواء وغايات، وللبشر أخطاء ونزوات وَأَنَّ هَـذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّـاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

أيّها المسلمون: طوبى للثّابت على دينه،الجارِي على سَننِه وأحكامه، الماضي على مَراسِمه وأعلامه، لا يتركه لغلَبة العوائد، ولا لشوائبِ المحدَثاتِ الزوائد، فادّرِعوا بصِدق الانقياد، وتيقَّظوا من الغفلةِ والرّقاد، واسلكوا سبيلَ الرَّشاد، وحاذروا سبيلَ الكِبر والعِناد، وتأهّبوا بخير الزادِ ليوم المعاد، وجرِّدوا المتابَعَة، واصدُقوا في الموافقة، لما كان عليه رسولُ الله  وصحابتُه الكرام، تنجوا من الشقاء، وتسلَموا من البلاء.

الحور بعد الكور - الخطبة الثانية

فلقد ظهرت مناهج باطلة، كثر أربابها وأتباعها، وقام عليها منظرون ، ورؤوس جهال، اقتطع كل منهم فئة من الأمة، يبث فيها آراءه وأفكاره ، حتى التبس الحق بالباطل ، وأوعر الطريق إلى معرفة المنهج الصحيح ، إلا من وفق الله وهدى إلى منهج السلف الصالح ، وقليل ماهم.

 عباد الله : إنك لتعجب من أناس يتقلبون ، وعلى مبدأ واحد لا يثبتون، ففي كل يوم لهم في المسألة قول، وفي الحادثة حكم، لا يستقرون على رأي، ولا ينطلقون من دليل صريح، أو نقل صحيح ، فبالأمس هذا حرام، واليوم حلال، بالأمس بدعة، واليوم سنة، هذه طائفة بالأمس لئام، واليوم إخوة كرام، وإذا قيل لهم في ذلك، قالوا ذاك على ما به أفتينا، وهذا على ما به نفتي، فهلا وسعهم السكوت حين أعجزهم العلم، وهلا ردوا الأمر إلى أهله وتسربلوا بلباس الحلم ، هلا لزموا كبار العلماء، وكفوا الأمة شر هذا التشرذم والعناء، ولست أقصد ما يسع فيه الخلاف من المسائل ، ممن يحق له المخالفة بمستند شرعي .

يا أتباع هؤلاء ، أما ظهر لكم الحق وبان، أما آن أن تتركوا التعصب الأعمى والتقليد، وتصدقوا في محبة الله وتجردوا التوحيد . وتتمسكوا بالدليل الصحيح، والنقل الصريح

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : الواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أن يكون اصل قصده توحيد الله، بعبادته وحده لا شريك له ، وطاعة رسوله ، يدور على ذلك ، ويتبعه أين وجده، ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة ، فلا ينتصر لشخص انتصاراً مطلقاً عاماً إلا لرسول الله ، ولا لطائفة انتصارا مطلقاً ، إلا للصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار ، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا، فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط ،وقد كانت عقولهم راجحة ، وأذهانهم متوقدة، وإفهامهم مدركة، وهم أهل الفطرة والإيمان ، وأرباب الفصاحة والبيان ، نزل القرآن بلسانهم ، والرسول بينهم يوضح لهم ما أشكل عليهم ، ويبين لهم ما خفي عنهم ، ويوجههم إلى الطريق السليم ، والمسلك القويم ، ولذا حازوا قصب السبق في كل الفضائل ، ونالوا إمامة الدين في هذه الأمة بعد نبيها، وتبوؤا في ذلك أعلى المنازل وأرفع الدرجات

عبدَ الله: يا مَن اختار النقيصةَ، وتسربَلَ بالدنيَّة، مَا لك على غَيِّك مُصِرًّا، وعلى معاصيك مستمِرًا؟! أما تخاف السابِقة؟! أما تحذَر سوءَ الخاتمة؟! احذَر من أوعَدَ وهدّد، وأنذَر وشدَّد وتوعَّد، احذَر أن تُذادَ عن حوض النبيّ محمّد، فعن أسماءَ بنتِ أبي بكر رضي الله عنهما أنّ رسول الله  قال ( إني على الحوض، أنتظرُ من يرِد عليّ منكم، وسيؤخَذ أناسٌ دوني، فأقول: يا ربّ يا رب، منِّي ومن أمّتي، فيقال: هل شعرتَ بما عمِلوا بعدك؟! والله ما برِحوا يرجعون على أعقابهم، إنهم ارتدّوا على أدبارِهم القهقرى، فأقول: سُحقًا سُحقًا لمن بدّل بعدي ) متفق عليه

أيّها المسلمون: عجبًا لقلبٍ عند ذِكر الحقِّ غيرِ خاشع، عجبًا لعينٍ لا تسكُب المدامِع، عجبًا لنفسٍ لا ترعوِي وتراجِع، فاسترحِم مولاك ضارعًا، وتُب إليه مُسارِعًا، ادعُه راَغِبًا وراهبًا، واسأله الهداية لما اختلف فيه، فمن خَشيَ الله لم ينَله أذًى، ومن رَجا الله كان حَيثُ رجا.