آثار الذنوب وأخطار المعاصي

بسم الله الرحمن الرحيم

آثار الذنوب وأخطار المعاصي

عباد الله: إنه ما من شر وداء،إلا وسببه الذنوب والمعاصي، تأمل كتاب الله، وما حل بالأمم السابقة من أنواع العقوبات، جزاء معصية الله ومخالفة أمره، ما الذي أخرج الأبوين من الجنة، وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء، وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، وبدله بالقرب بعداً، وبالرحمة لعنة، وبالجنة ناراً، وتأمل ما حل بالأمم المخالفة لرسل ربها ،انظر ما حل بقوم نوح من الغرق ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ﴾ وما حل بعاد قوم هود حيث سلط عليهم الريح العقيم ﴿مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾ وما حل بقوم صالح عليه السلام ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ وهكذا تتوالي نذر الله على عباده الذين خالفوا أمره بأنواع العقوبات ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.

أيها المؤمنون: المعاصي سبب كل عناء، وطريق كل شقاء، فما حلت بديار إلا أهلكتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها، وإن ما يصيب الناس من ضر وضيق، في أبدانهم وذرياتهم، وأرزاقهم وأوطانهم، إنما هو بسبب معاصيهم وما كسبته أيديهم ﴿ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.

عباد الله: إنه لما طغت الماديات على كثير من الناس، وأشربوا حب الدنيا،غفلوا عن إدراك سنن الله الكونية، والنظر في آياته الشرعية، التي بينت كيف كان حال من قبلهم من الأمم حين خالفوا أمر الله، لذا لم يلتفتوا إلى محاسبة النفس، وكفها عن غيها، فانتشرت بذلك الفواحش، وكثرت المنكرات، واستبيحت المحرمات، لغياب الرقيب، وضعف الإيمان في النفوس، وقلة الخوف من الله، والجهل به سبحانه.

عباد الله: المعاصي سببٌ لحرمان الأرزاق، وسببٌ لفشوّ الفقر، وحرمان البركة، جاء في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الرجل ليُحرَم الرزقَ بالذنب يصيبُه» .

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "إنّ للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسَعة في الرزق، وقوَّة في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق. وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبُغضاً في قلوب الخلق" .

المعاصي سببٌ لهوان العبد على ربّه، قال الحسن البصري رحمه الله "هانوا عليه فعصوه، ولو عزُّوا عليه لعصمهم" .

أيها المؤمنون: إن أثر الذنوب وخطرها، ليعظم في حق المذنب، وفي حق عموم الأمة، حيث يقترن هذا الذنب بالاستهانة بالمعصية، وعدم استعظام الذنب، فإنه بقدر ما يصغر الذنب عند العاصي، بقدر ما يعظم عند الله، قال ابن القيم رحمه الله: "فاستقلال العبد للمعصية، عين الجرأة على الله، وجهل بقدر من عصاه وبقدر حقه"وإن استعظام الذنوب يولد عند صاحب الذنب الاستغفار والندم والتوبة، قال ابن مسعود رضي الله عنه مصوراً حال المؤمن وحال الفاجر: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فطار".

أخرج الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه».

ومما يعظم به أثر الذنوب وخطرها، المجاهرة بها وإعلانها. فإن المجاهرة بالمعصية إثم كبير، ووزر عظيم، يترفع عنه المؤمنون بالله، تعظيماً له وإجلالا، وخوفاً منه ورهبة، وطلباً للعفو والستر والمغفرة في الدنيا والآخرة، ولا يقدم على المجاهرة بالمعصية إلا كل جهول ، لا يعرف لله قدراً، قد خف خوف الله والحياء منه من قلبه.

ولقد ذم الله الأمم الخالية ممن جاهر بالعصيان وأمن مكر الله، فأخذهم الله على غرة وهم في غيهم يعمهون وهكذا سنة الله فيمن عصاه، فإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾ .

قال بعض السلف : بغت القومَ أمرُ الله، وما أخذ الله قوماً إلا عند سلوتهم ونعمتهم وعزتهم، فلا تغتروا بالله. وإن المجاهرة بالمعصية، تغري الغافل ومن في قلبه مرض على مجاراة العاصي وتقليده، فيكون قد جمع إلى معصيته معصية أخرى وهي الدلالة على الضلالة فيكون عليه وزرها ووزر من عمل بها.

الخطبة الثانية:

فتشتد خطورة الذنوب على المجتمع إذا انعدم إنكارها، بل قد يتطرق ذلك إلى مجالسة أربابها ومشاركتهم بالسكوت عنهم، وهذا من أسباب عموم العذاب واللعنة قال تعالى ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾. ثم إن النجاة حين ينزل العذاب، تكون للمصلحين ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ .

عباد الله: إن إقامة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، سبب لحفظ المجتمع وصلاحه وفلاحه،وترك ذلك سبب في هلاكه وفساده ، فأصحاب المنكرات اليوم، يدقون بمعاولهم في مجتمع المسلمين، فتارك الصلاة، ومانع الزكاة والزاني والمستهزئ بالدين، ودعاة السفور والفجور، وشياطين القنوات، وآكل الربا، وآكل أموال الناس بالباطل، وأصحاب الرشاوي، وأهل الغناء والمجون، وغيرهم كثير، كل هؤلاء ينخرون في سفينة المجتمع، فإن لم يمنعوا وينكر عليهم صار العذاب عاماً، والعقوبة مطبقة.

وما أحسن ما قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "اعلم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هما من أعظم عُمُد الدين، لأن بهما حصول مصالح الدنيا والآخرة، فإن كانا قائمين، قام بقيامهما سائر الأعمدة الدينية والدنيوية، أما إذا كانا غير قائمين إلا قياماً صورياً لا حقيقياً فيالك من بدع تظهر،ومن منكرات تستبين، ومن معروف يستخفي، ومن جولان العصاة، وأهل البدع تقوى وترتفع، ومن ظلمات بعضها فوق بعض، ومن هرج ومرج في العباد، يبرز للعيان، وتقرّ به عين الشيطان، عند ذلك يكون المؤمن كالشاة العائرة، والعاصي كالذئب المفترس، وهذا بلا شك ولا ريب، يمحو رسوم هذا الدين، وحينئذ يصير المعروف منكراً،والمنكر معروفاً ويعود الدين غريباً كما بدأ".أ.هـ

إنَّ الأمّةَ اليومَ بحاجةٍ ماسّة، إلى مراجعةِ نفسِها والعَودةِ إلى ربِّها،خصوصًا في هذه الظروفِ الحرجة،التي تسلَّط فيها الأعداء على الإسلام والمسلمين وديارهم.

إنَّ الواجب هو الفِرارُ إلى الله، والتوبةُ النصوح، والتنادِي بالرجوع إلى الله، والالتجاء إليه، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر، أمّا الغفلةُ والتمادي، والنومُ عن المنادي، وإقامةُ الحفلاتِ الماجنات، والسَّفرات المشبوهات، والإصرارُ على مخالفة أوامر الله، فإنها مَجلَبةُ النقم، مُزيلة النّعم، وتعظُم المصيبةُ إذا كانت الذنوب تُشهَر، وتُعرَض ولا تُنكَر.

عبدَ الله، تأمَّل في مَطعَمك ومشربك، وانظر ماذا تَرى وتسمَع وتقول، وماذا تُسِرّ وتعلن, ولئن خَفِيت منك اليومَ خافية، فهناك في أرض المحشَر، يُكشَف الغطاءُ، وتتكلَّم الجوارح، لقد جاءتك مِن ربِّك النذُر، فمن تذكَّر فإنما يتذكَّر لنفسه، وصدق الله ﴿لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ﴾ والتَّائبُ من الذنب كمن لا ذنبَ له، والله يعفو ويصفَح.