النعم بين الشكر والكفر

بسم الله الرحمن الرحيم

النعم بين الشكر والكفر

إن التذكير بنعم الله، منهج رباني، ومنهج دعوي، يوقظ العقول النائمة، ويحرك القلوب الغافلة، ويبصر الأفئدة اللاهية.

فلقد حكى الله منهج التذكير بالنعمة، في مواضع كثيرةٍ من كتابه ، فقد حكى عن نوح – عليه السلام – أنه قال لقومه ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً (15) وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً

فمَنْ هذا صنعه أيجدر بهم أن يعصوه أو يخالفوه؟ أم أن حقه أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.

وكذلك حكى عن هود أنه قال لقومه ﴿إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ .

وحكى عن صالح أنه قال لقومه ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ .

وحكى الله عن شعيب أنه قال لقومه ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ﴾ .

وحكى عن موسى أنه قال لقومه ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ العَالَمِينَ﴾ .

عباد الله: بالشكر دوامَ النعم وزيادتها، وبالكفر والجحود ذهابها واضمحلالها ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ .

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان، فلن ينقطع المزيد من الله، حتى ينقطع الشكر من العبد" .

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "عليكم بملازمة الشكر على النعم، فقلَّ نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم".

واسمع إلى الحسن البصري رحمه الله ينذر ويحذر قال: "إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء الله، فإذا لم يُشكر عليها قلبها عذاباً".

عباد الله : النعم تحتاج إلى شكر لله تعالى عليها، وحمدًا له على إسدائها وإنعامها، وذلك بأن تظهِر أثر نعمة الله، على لسانك ثناءً واعترافًا، وبقلبك شهودًا ومحبّة، وعلى جوارحك انقيادًا وطاعة، فهذا هو علامة الشكر لله تعالى.

علامة شكر المرء إعلان حمدِه فمن كتم المعروفَ منهم فما شكر إن فئاماً من الناس ظن أن الشكر أحرف وكلمات، عبارات وهمسات، ينطق بها لسانه، وقلبه ساهٍ غافل، وجوارحه غارقة في المعاصي والآثام، العين تبصر ما تشاء ومن تشاء، والأذن تسمع ما تشتهي، واللسان ينطق بما يريد، والأقدام تسير، واليدان تبطشان دون مراعاة حلال أو حرام.

يا أهل التوحيد والسنة، إن الشكر ليس مجرد ألفاظ تقال. الشكر أن تسير حياتك كلها وفق مراد الله ورسوله، فلا تسمع إلا ما يرضي الله، ولا تبصر إلا ما يحبه، ولا تنطق إلا بما يقربك منه. الشكر قول وعمل، ألم تسمعوا قول ربكم ومولاكم ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ .

عباد الله :انظروا إلى حال أنبياء الله ورسله وأوليائه، يقابلون النعم بالشكر والثناء، ويجتهدون في عبادة رب الأرض والسماء.

قال الله تعالى عن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام: ﴿شَاكِراً لأَنْعُمِهِ﴾ ويوم رزقه الله الولد قال ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ .

وهذا داود وابنه سليمان عليهما السلام أخبر الله عنهم فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ﴾ .

أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد ضرب أروعَ الأمثلة في شكر الله تعالى، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل حتى تتورّم قدماه، فأقول: تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» متفق عليه.

وليس من شكرِ الله تعالى على نعمه، التنكبُ عن أمره، والابتعاد عن طاعته، وارتكاب كل ما يغضبه، ويجلب سخطه، فذلك مدعاة إلى زوال النعمة وذهابها، أو انعدامها واضمحلالها ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ .

كما حكى الله لنا قصة مملكة سبأ وما أعطاها الله من أنواع النعم والخيرات، فلم تشكر، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الكَفُورَ﴾ .

الخطبة الثانية:

إن كثيراً منا لم يتفكر في نفسه وعظمة صنعها ،لم يتفكر في قدرة ربه الذي خلقه فسواه فعدله، في أي صورة ما شاء ركبه . يرفل في ثوب الصحة والعافية، سليم الأعضاء، حاضر العقل، ثاقب البصر، صحيح السمع، قائم اللسان.

وقبل هذه كلها وبعدها، تلتفت يمنة ويسرة إذا بالأعداد من البشر، يعبدون الحجر والشجر، ويسجدون للشمس والقمر، يؤلهون صنماً، أو يتمسحون بقبر، ويخضعون لبشر، وقد اختارك الله واصطفاك، وطهرك واجتباك، فكنت وما زلت عبداً لله، تنعم بالذل بين يديه ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ﴾ .

وزادك الله شرفاً وعزاً، يوم جعلك من خير أمة أخرجت للناس، نبيها أفضل الأنبياء، وكتابها خير الكتب، وشرعها خاتم الشرائع وناسخها ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾ إن دعوت فإلى الله تمد يديك، وتهمس بشفتيك، وإن استعنت فبالله وحده، إن ضاقت بك السبل، وعظمت عليك البلايا، فإليه ترفع حاجتك، وبه تنزل شكايتك، إن توكلت فعليه، وإن فررت فإليه، إن أحببت فله، وإن أبغضت ففيه، حياتك له، أقوالك وأفعالك، بل حتى همس لسانك، وخفقان قلبك، ونبض الحياة في عروقك، كلها لله، وحده دون سواه، إنه الغِنَى وإن كنت أفقر الناس، والعز وإن نالك من الذل صنوف، والشرف وإن لم تحظَ بشيء منه بين الناس، والرفعة ولو كنت في أعين البشر وضيعاً ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ تمشي على قدميك وقد بترت أقدام، تنام ملء عينيك وقد أطار الألم نوم غيرك، تملأ معدتك من الطعام والشراب، وقد جاع سواك، تفكر في سمعك وقد عوفيت من الصمم، وتأمل في نظرك وقد سلمت من العمى، وانظر إلى جلدك وقد نجوت من الجذام، وانظر إلى عقلك وقد أُنعم عليك بحضوره ولم تفجع بالجنون ولم تبتلى بالمخدرات والخمور. إنك في نعم عميمة، وأفضال جسيمة، ولكنك لا تدري. تفكر في نفسك، وأهلك وبيتك ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾.

قال يونس بن عبيد لرجل يشكو ضيق حاله: "أيسرك ببصرك هذا مائة ألف درهم، قال الرجل: لا، قال: فبيديك مائة ألف؟ قال: لا، قال: فبرجلك مائة ألف؟ قال: لا، فذكّره نعم الله عليه، فقال يونس: أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة".