الزيارة وآدابها

بسم الله الرحمن الرحيم

الزيارة وآدابها

أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وعظموا أمرَه وحرماتِه، الزموا الإخلاص في الطاعة، وتمسّكوا بطريق أهل السنة والجماعة، وحافظوا على الجُمَع والجماعة، تفوزوا بأربح بضاعة، وإن امرأً تنقضي بالجهالة ساعاتُه، وتذهبُ بالتقصير أوقاتُه، لخليقٌ أن تجريَ دموعُه، وحقيق أن يقلّ في الدجى هجوعه.

أيها المسلمون، جرت سنةُ الله عز وجل في خلقه أن لا يقوم لهم معاش ولا تستقيم لهم حياة إلا بالاجتماع والتآلف ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ .

إن إيثارَ الإسلام للاجتماع يظهر في كثير من أحكامه وآدابه، إن العبادات وهي من أشرف المطلوبات، ليست انقطاعًا في دير، أو تعبداً في صومعة، لماذا شُرعت الجماعات في الصلوات؟ ولمن فُرضت الجمعات؟ وما الحكمة في العيدين والاستسقاء، والكسوف والجنائز، ثم إجابة الدعوات في الولائم والمناسبات، والاجتماع في أوقات السرور والمباهج، وفي أوقات الشدائد والمكاره، إن ذلك كلَّه لا يتحقَّق على وجهه إن لم تتوثّق في الأمة العلاقات، وتُحفَظ حقوق الأخوَّة والجماعة.

عباد الله : الإنسان بطبعه يحب التآلف مع غيره، والإسلام دين تجمع وأُلفة، والاختلاط بالناس والتعارف بينهم من تعاليمه ، والزيارة وسيلة من وسائل المخالطة، وهي تفضي إلى التواصل، وبها تشيع المودة، وتتآلف القلوب، وتقوى الروابط، ويتذكر الناس، وينبّه الغافل، ويّعلم الجاهل، ويروح بها عن النفوس، وتخفف المصائب والأحزان.

ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم زار عدداً من أصحابه، وكان يزور أبا بكر رضي الله عنه باستمرار، فعن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبويَّ إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشياً.

الزيارات حقوق يُجْمع الخلق على الإقرار بها، والإجازة فرصة سانحة لتؤدى فيها الحقوق، وتملأ الأوقات بالمفيد، ولا يخفى أن ضغط الواقع، أصاب كثيراً منا بالذهول، فالتبست عليه الأوليات، وقدمت المباحات على الواجبات والمستحبات، ولعل من نافلة القول، أن زيارة الوالدين من برهما، زيارة دائمة تشمل أداء حقوقهما، بتفقد أحوالهما والتلطف معهما، ومهما بلغت المشاغل فلا عذر للأبناء في تجاهل الوالدين، وقد جعل الله حقهما عظيماً ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ .

والزيارة للأرحام بنية صلة الرحم، ودوام الترابط، وتفقد أحوالهم، ومساندتهم مادياً ومعنوياً، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت: بلى، يا رب، قال: فهو لكِ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرؤوا إن شئتم ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾».

وزيارة المريض من حق المسلم على أخيه المسلم، ولها آثار طيبة عليه، فهي تُطَمْئن قلبه، وتشرح صدره، وتنسيه مرضه، وتخفف آلامه، خاصة إذا قارنها ذكر ودعاء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو زرته لوجدتني عنده» .

ومن الزيارات المثمرة زيارة العلماء وأهل الصلاح والتقى، يقتبس فيها من عبادتهم وزهدهم ووقارهم وخشيتهم، قال ابن المبارك: كنت إذا نظرت إلى الفضيل جدد لي الحزن، ومقت نفسي

والزيارة في الله بين المسلمين تدخل البهجة في القلوب، وهي سبب محبة الله للعبد، فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أن رجلاً زار أخاً له في قرية، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته» أخرجه مسلم

الخطبة الثانية:

للزيارة – عباد الله – آداب، تجعل المخالطة تقوم على أساسٍ سليم، وتتحقق بها هدف الزيارة، من بث روح المودة والمحبة، وحسن الأجر والفائدة، أبرز آداب الزيارة اختيارُ الوقت المناسب واليوم المناسب، والزيارة الطويلة المكررة تفضي إلى الملل، وتضيع الأوقات، وتجعل الزائر ثقيلاً، وقد تُذهب وده.

وحسن الاستقبال ليس مسوغاً للاسترسال والإكثار من الكلام، يتأكد هذا مع أصحاب المسؤوليات من علماء ونحوهم، ممن تضيق بهم الأوقات لكثرة الأعباء، فأوقاتهم ثمينة، ودقائق حياتهم غالية، والخير كل الخير في التوسط والقصد.

من الآداب – عباد الله – تطهير الزيارة من دواعي الشر والفتنة، كالاختلاط مثلاً، فقد تفشت ظاهرة الاختلاط في بعض الزيارات العائلية، حتى أصبحت عُرفاً وعادة بين الأزواج وأقربائهم، وهذه لا شك تؤدي إلى الفتنة والفساد، وتفتح أبواباً واسعة للشيطان كما لا يخفى.

من الآداب الشرعية – عباد الله – التي أدّب الله بها عباده المؤمنين، ذلك الأدب الرفيع أدب الاستئذان، حرمة للبيوت، وتهذيباً للنفوس، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أدب الاستئذان، فعن رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال: ألج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: «أخرج إلى هذا فعلّمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل؟» فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل .

الاستئذان – عباد الله – يحقق للبيوت حرمتها، ويوفر على أهل البيت الحرج من المفاجأة، من الأدب أن يقرع الزائر الباب برفقٍ ولين، ولا يقف أمام الباب، ولا يرمي ببصره قبل أن يفتح ويُسمح له بالدخول، كل ذلك صون للبيوت، وليأمن الناس على عوراتهم وحرماتهم.

يستأذن الزائر ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا انصرف، ففي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع» قال تعالى ﴿وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ﴾ .

إن لم يؤذن للزائر فعليه أن يرجع، فذلك خير وأزكى، وهذا يجعل الزائر يعود مغتبطاً، فالله يقول ﴿هُوَ أَزْكَى لَكُمْ﴾ فلا داعي للغضب والألم والأسى أن الباب لم يفتح فللناس أسرارهم وأعذارهم.

ومن الزيارة المتسحبة للرجال دون النساء زيارة القبور، فهي تلّين القلوب القاسية، وترققها وتزهدك في الدنيا، وتولد العظة والعبرة، وقد حضّ النبي صلى الله عليه وسلم على زيارتها فقال: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» .