الدين النصيحة

بسم الله الرحمن الرحيم

الدين النصيحة

أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه، فهي للنّفس زِمام، وللهوَى خِطام، وللشّهوات والملذّات فِطام ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

جاء في صحيح مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة» قلنا: لمن يا رسول الله قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». فالنصيحة من قوام الدين، وبالنصيحة يستقيم أمر العباد، وتستضاء سبيل الرشاد، والنصيحة كلمة جامعة، يعبر بها عن إرادة الخير للمنصوح له، وهي ضد ونقيض الغش، وأصل النصح الخلوص والنقاء.

والنصيحة واجبة على المسلمين للمسلمين، فهي عماد الدين، ولذلك عد هذا الحديث أصلاً عظيماً من أصول الإسلام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة من الصحابة رضي الله عنهم على النصح لكل مسلم، فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم» متفق عليه.

فالنصيحة لله هي شدة العناية بأداء ما افترضه، ومجانبة ما حرم ، والإيمان به سبحانه وتعالى، وتوحيده في أفعاله وعبادته وأسمائه وصفاته، دون تعطيل ولا تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل

وأما النصيحة لكتابه فبالإيمان به، والعمل بما فيه، والاعتقاد أنه كلام الله، منه بدأ و إليه يعود، وأما النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم فبالعناية بسنته، والاقتداء به، وتعظيم أمره، ومحبته وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.

أما النصيحة لأئمة المسلمين فيشمل كل من ولي أمر المسلمين، سواء العلماء أو الولاة، وتكون النصيحة لهم بطاعتهم في المعروف ومحبتهم،والذب عن أعراضهم، وحب عدلهم واجتماع كلمتهم على الحق.

 وأما النصيحة لعامة للمسلمين فتكون بأن يحب المرء لهم ما يحبه لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه، ويشفق عليهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم، ويحب صلاحهم وألفتهم، ودوام النعم عليهم، ونصرهم على عدوهم، ودفع كل أذى ومكروه عنهم، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ومجانبة الغش والخداع لهم، وحفظ حقوقهم وأعراضهم وأموالهم، وتعليم جاهلهم، ورد من زاغ منهم إلى الحق.

وقد أرسل الله تعالى رسله الكرام ليكونوا ناصحين لأقوامهم، قال تعالى عن نوح عليه السلام: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.

وقال تعالى عن هود عليه السلام: ﴿وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾.

وقال تعالى عن صالح عليه السلام: ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ .

والنصيحة من حق المسلم على أخيه المسلم روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : «حق المسلم على المسلم ست إذا لقيته فسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس فحمد الله فشمته وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه».

كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم يتناصحون فيما بينهم ويقبلون النصيحة ولو كان الناصح دونهم في السن، أو العلم أو الجاه، وحذروا من رد النصيحة.

قال ابن مسعود رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ﴾ هو الرجل ينصح أخاه فيقول: عليك نفسك أو مثلك لا ينصحني.

أيّها النّاس: النُّفرة والتّدابر سِمةٌ من سِمات المجتمعاتِ المنفكّة، ومعرَّةٌ كبرى تأسَف لها قلوبُ المشفقين من ذوي البصائر، والنقدُ الموجَّه، والنّصح الهادِف الموافقان لمرادِ الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم هما لبِنتان من لبِنات الحِصنِ العزيز للمجتمَع المتكامِل الذي تجتمع قلوبُ بنيه على رعايةِ الصّالح العامّ الخاضع لرضا الله جلّ وعلا.

فاتقوا الله عباد الله وقوموا بواجب النصح ، ملتمسين رضا الله ، على هدي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتفين آثار سلفكم الصالح .

الخطبة الثانية :

ينبغي أن يقومَ النّصح على آدابٍ جُلَّى، وسِماتٍ عليا، تجعل الحقَّ من خلاله مقبولاً، والنّصحَ بين النّاس منشورًا، وبَاذلَه والمتسبِّب فيه مأجورًا.

فينبغي للنّاصح أن يقومَ بالنّية الخالصةِ لله، وإلاّ كان نفاقًا ورياءً، كما ينبغي أن ينطلقَ نصحه من بابِ المحبّة والإشفاق بالآخرين، فهو أحرَى لأن يباركَ الله فيه ويبلغَ به المقصود.

يضاف إلى ذلك ؛ الصدقُ في النّصيحة، والسِّتر وإرادة الإصلاح، لا إظهار الشّماتة والتّعيير؛ لأنّ السِّترَ في النّصح من سماتِ المؤمن الصادق، فإنّ المؤمنَ يستر وينصَح، والفاجر يهتِك ويُعيِّر.

كما ينبغي للنّاصح أن يصابرَ ويجاهدَ نفسَه، على تحمُّل أعباءِ هذا المَيدان، وما قد يناله فيه من صُوَر الشّماتة والاستكبار.

ولقد أحسنَ ابن القيّم رحمه الله حينَ قال: "فالسعيدُ الرّابح من عامَل الله فيهم ولم يعامِلهم في الله، وخاف الله فيهم ولم يخَفهم في الله، وأرضى الله بسخَطهم ولم يرضِهم بسخطِ الله, وراقَب اللهَ فيهم ولم يراقبهم في الله"

ورحِم الله الإمامَ أبا عبد الله ابن بطّة حينما تحدّث عن النّصح وقبولِ الصَواب من الغير فقال: "واغتمامُك بصوابِه ـ أي: بصوابِ ناصحك ـ غشٌّ فيه وسوء نيّة في المسلمين، فاعلم ـ يا أخي ـ أنّ من كرِه الصوابَ من غيرِه، ونصَر الخطأ من نفسِه، لم يؤمَن عليه أن يسلبَه الله ما علّمه، وينسيَه ما ذكّره، بل يُخاف عليه أن يسلبَه الله إيمانَه " انتهى كلامه رحمه الله.

ولقد أحسنَ ابن قتيبةَ أيضًا، وهو يشكو أهلَ زمانه في القرنِ الثالث الهجريّ وما يعانيه من بَعض الآبين للنّصح، والمستنكفين عنه، وما يلاقيه النّاصحُ في أوساطهم، فيقول رحمه الله: "إنّ الناصحَ مأجور عند الله، مشكورٌ عند عبادهِ الصالحين، الذين لا يميل بهم هوًى، ولا تدفعهم عصبيّة، ولا يجمعهم على الباطل تحزّبٌ، ولا يلفتهم عن استبانةِ الحقّ حدٌّ، وقد كنّا زمانًا نعتذِر مِن الجهلِ، فصِرنا الآن نحتاج إلى الاعتذار من العلم، نؤمّل شكرَ النّاس بالتنبيه والدّلالة، فصرنا نرضَى بالسّلامة، وليس هذا بعجيبٍ مع انقلابِ الأحوال، ولا ينكَر مع تغيّر الزمان، وفي الله خلفٌ وهو المستعان" انتهى كلامه رحمه الله.

ألا فاتّقوا الله معاشرَ المسلمين، واعلَموا أنّ الأمةَ لا يزال فيها النّاصح والمنصوحُ والرادُّ والمردود عليه، والحقّ ضالّة المؤمِن أنّى وجدَها أخذَ بها.

فالواجب على العاقلِ؛ لزومُ النصيحةِ للمسلمين كافّة، وتركُ الخيانةِ لهم بالإضمار والقول والفعل معًا، وخيرُ النّاس أنفعهم للناس، كما أنّ خيرَ الأعمال أحمدُها عاقبةً، وأحسنها إخلاصًا، وضربُ النّاصح خيرٌ من تحيّة الشانِئ.