الدعوة والهداية

بسم الله الرحمن الرحيم

الدعوة والهداية

عباد الله: إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء، فهو سبحانه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لذا فلا يأس من قلب خمد وجمد، وقسا وتلبد، فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، ويشرق فيه النور بعد ظلمة، ويخشع لذكر الله بعد غفلة، فالله الذي يحيي الأرض بعد موتها، فتعود تنبض بالحياة، وتزخر بالنبات والأزهار والثمار، فكذلك هو سبحانه يحيي القلوب.

 فهذا الصحابي الجليل عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه: لما كان يوم فتح مكة، ركب هاربا، فهاج بهم البحر، فجعل الناس يضجون بالدعاء، يدعون الله ويوحدونه، فقال عكرمة: ما هذا؟ قالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله. قال: هذا إله محمد الذي يدعونا إليه، فارجعوا بنا فرجع فأسلم.

وكذا ما كان من شأن أبي محذورة رضي الله عنه قال: خرجت في نفر فكنا ببعض طريق حنين فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين فلقيناه في بعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن متنكبون، فصرخنا نحكيه ونستهزئ به، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه، فقال: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليّ وصدقوا، فأسل كلهم وحبسني فقال: قم فأذن بالصلاة. فقمت ولا شيء أكره إليّ من النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت الأذان، ثم دعاني حين قضيت التأذين، فوضع يده على ناصيتي ونزل بها على وجهي ثم على صدري حتى بلغ بها سرتي، فما رفعها حتى ذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك كله محبة له صلى الله عليه وسلم .

وهذا عمير بن وهب تعاهد مع صفوان بن أمية عند الكعبة – وكانا كافرين –على أن يقتل عمير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويكفل صفوان بنات عمير، ويسد دينه، فخرج بسيفه وقد أعده بالسم، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، ودعاه وكشف له أمره، وعرفه أن الله أطلعه على ما يضمره، فأسلم وتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم حبا، فأخذ الصحابة يعلمونه القرآن، ثم عاد إلى مكة يدعو إلى الإسلام بعد أن كان جاء ليقتل النبي صلى الله عليه وسلم .

وفي حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، في قصة الرجل الذي عشق ابنة عمه، وجلس منها مجلس الرجل من زوجته، ثم قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، ثم قام وتركتها وترك المال معها.

وأما الفضيل بن عياض رحمه الله فقد كان لصا يقطع الطريق، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تاليا يتلو ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ﴾ فلما سمعها قال: بلى يا رب قد آن، فرجع فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها مسافرون، فقال بعضهم: لا نمضي حتى نصبح، فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا. قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين هاهنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام، فأصبح الفضيل بعد ذلك من أهل العلم والعبادة والورع.

عباد الله: هذه القصص وأمثالها كثير، قد ضمنتها كتب السنة، تدل على أن الله تعالى يهدي من عباده أقواما بعد معصية، وبغض لدين الله، وكفر وعصيان، وفسق وإجرام، واستحلال للأموال، وغرق في الشهوات، وتلقف للشبهات، لأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه، فعلى العبد المسلم ألا ييأس من أحد في دعوته إلى الله تعالى، وأن يحسن في دعوته؛ لعل الله أن يلين قلبه للحق، ويشرح صدره للإسلام، فيدخله ويحسن إسلامه بعد كفر وفسوق، فلا يترك بابا إلا دعا لله سبحانه فيه، وقد كان المسلمون دعاة قبل أن يكونوا غزاة، فتوسعت رقعة الإسلام، وتزايد عدد المسلمين، ودخلت أقطار عديدة في الإسلام، من غير جهاد ولا قتال. فالواجب على كل مسلم فتح باب الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة للناس جميعا، مهما كان بعدهم عن الدين، أو انغماسهم في الشهوات، أو صدهم عن الهدى، أو تزعمهم لفرق الضلال، لأن مفاتيح القلوب عند الله سبحانه، فندعو الله للكفار بالإسلام، وللضالين بالهداية، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيرا، استجاب الدعاء وهداه وأرشده.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: إن الناس جميعا، على مر الدهور والعصور ليسوا سواء، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك الفضل الكبير. فيهم من أقام العدل في نفسه وأهله ومجتمعه، فجعله الله للمتقين إماما، وفيهم من أشاع الظلم، فأهلكه الله عقوبة وانتقاما، ومنهم من يرفض النصيحة، ويراها فعلة قبيحة! لا تليق بمقام الأنام، ومنازل العظام، ومنهم من يقبلها، ويفرح بها، ويشكر أهلها، ويعمل بها، وقليل ما هم.

وفي طريقته صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله خير قدوة، وأكمل منهج ؛ حيث مكث صلى الله عليه وسلم سنوات يدعو الناس إلى التوحيد، وينهاهم عن الشرك، قبل أن يأمرهم بالصلاة والزكاة، والصوم والحج، وقبل أن ينهاهم عن الربا والزنا، والسرقة وسماع الغنا. فالأصل الأصيل هو تحقيق العبودية لله رب العالمين ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ ولا يكون ذلك إلا بمعرفة التوحيد علما وعملا، واقعا وجهادا.

عباد الله : إن التوحيد منطلق الدعوة إلى الله وغايتها، فلا دعوة إلى الله بدونه، مهما تسمت باسم من أسماء الإسلام، وانتسبت إليه، كالإصلاحية والجهادية وغيرها، وذلك أن الرسل جميعاً، وعلى رأسهم سيدهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم كانت دعوتهم إلى التوحيد بدءاً وغاية ونهاية، وهكذا جميع رسل الله دعوا إلى عبادته وحده، والتبرؤ من عبادة ما سواه ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ فهذه هي غاية المسلم العليا، وهدفه الأسمى، الذي يسعى عمره، باذلاً جهده؛ لإيجادها بين الناس، وتوطيدها بين الخلق. وإن المجتمع البشري اليوم، تتجاذبه موجات إلحاد، وعواصف تبشير، يفتح أمامه دعاة الشر والفساد سبلاً جائرة، عن الحق حائدة، وللصواب مجانبة . ولئن كانت الأمة محتاجة إلى الدعوة إلى الله في كل وقت، كاحتياجها إلى الماء والهواء؛ فإنها اليوم، أحوج ما تكون إلى ذلك ؛ فمن حائر يحتاج إلى بيان، ومن غافل يحتاج إلى تنبيه، ومن معاند يحتاج إلى مجادلة بالتي هي أحسن .

وإن أفضل وسيلة لإنقاذ الأمة، وأجل صفة تلحق المؤمن بركب الأنبياء، وتحله مكانة عالية في عالم السعداء: هي الدعوة إلى الله تعالى، على هدى وبصيرة، دعوة يزينها عمل صالح، وقول صادق، ونية حسنة، وإعلان للعقيدة، مهما تغيرت الأحوال، وقست الظروف ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ .