الدعـاء

بسم الله الرحمن الرحيم

الدعـاء

يا من له الفضل محضا في بريته *** وهو المؤمل في الضراء والبــــاس

عودتني عادة أنت الكفيل بها *** فلا تكلني إلى خلق من النـــــاس

ولا تذل لهم من بعـد عزته *** وجهي المصون ولا تخفض لهم راســي

فإن حبل رجائي فيك متصل *** بحسن صنعك مقطوعا عن النـــاس

عباد الله: يتقلب الناس في دنياهم بين فرح و سرو ر، و شدة وبلاء وشرور، تمر بهم سنين ينعمون فيها بطيب العيش، وصفاء الأيام، ثم تعصف بهم أخرى عجاف، يتجرعون فيها الغصص، و يكتوون بنار البعد والحرمان.

وفي كلا الحالين لا يزال المؤمن بخير ما تعلق قلبه بربه ومولاه، وثمة عبادة هي صلة العبد بربه، وهي أنس قلبه، وراحة نفسه. ثمة سلاح لا تصنعه المصانع البشرية، إنه أقوى من كل سلاح، إنه سلاح رباني، سلاح الأنبياء والأتقياء على مر العصور. سلاح نجى الله به نوحاً عليه السلام، فأغرق قومه بالطوفان، ونجى الله به موسى عليه السلام من الطاغية فرعون، نجى الله به صالحا، وأهلك ثمودا، وأذل عادا، وأظهر هودا ، وأعز محمداً صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة. سلاح حارب به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا يزال ذلكم السلاح هو سيف الصالحين، مع تعاقب الأزمان وتغير الأحوال. ذلكم هو الدعاء.

فيا عباد الله، اتقوا لله ربكم، وأطيعوه واشكروا له ولا تكفروه، وأثنوا عليه بما هو أهله وادعوه، فإنه سبحانه قد أمر كم بإخلاص الدعاء، ووعدكم عليه بكريم العطاء، وصرف البلاء، وأرشدكم إلى أن الدعاء، من أعظم الأسباب التي ينال بها الخير ويتقى بها المكروه، فقال جل ذكره: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ﴾ ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ ﴿هُوَ الحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾.

عباد الله: من يكثر قرع الباب يوشَك أن يفتح له، ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له، ومن سره أن يستجيب الله له حال الشدة والضيق، فليكثر من الدعاء حال الرخاء، «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»، وليعزم المسأله وليعظم الرغبة، وليلح في الدعاء. وليكن من الإجابة على رجاء، و لا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما، يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء. ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ﴾.

عباد الله : اجتهدوا في الدعاء، وأكثروا من الثناء، وعظموا الرجاء، وتحلوا بآداب الدعاء فإن خزائن الله ملأى، ويديه سحاء، لا يغيضها نفقة، ففي الحديث القدسي أن جل وعلا يقول «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منهم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر» .

لا تسألن بني آدم حاجــة *** وسل الذي أبوابه لا تحجب

الله يغضب إن تركت سؤاله *** وبني آدم حين يسأل يغضب

ولقد أنكر الله على أقوام ابتلاهم ليدعوه ويتضرعوا إليه، فأ نساهم الشيطان ذلك، فحقت عليهم كلمة العذاب ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ

فالواجب علينا يا عباد الله: أن نتنبه لسنن الله فينا، فقد يبتلينا ليسمع دعاءنا وتضرعنا، فإن الله يحب أن يسأل ويدعى، فمن غفل عن ذكر الله في الشدة، كان عن ذكره في الرخاء أغفل، وأولئك هم الخاسرون.

الخطبة الثانية:

الحمد لله

واعلموا أن للدعاء سننا وآدابا، منها :

اختيار الأوقات الشريفة: كشهر رمضان، ويوم عرفة، ويوم الجمعة، وكوقت السحر. وأن يغتنم الأحوال الشريفة: كحال انتظار الصلاة، وفي السجود، وعند الوجل ورقة القلب. و أن يقدِّم التوبة والاستغفار بين يدي الدعاء. وأن يبدأ بحمد الله وتمجيده والثناء عليه. و أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم . و أن يدعوا الله تعالى بربوبيته وأسمائه وصفاته. و أن يعزم المسألة ولا يعلق على المشيئة. وأن يوقن بالإجابة. وأن يدعو بتضرع وخشوع ورغبة. وأن يلح في الدعاء والسؤال. وأن يتوسل إلى الله تعالى بصالح الأعمال، كما في قصة أصحاب الغار.

عبادا الله : الدعاء فضله عظيم ومن ذلك :

أنه طاعة لله وامتثال لأمره عز وجل. وهو محبوب له سبحانه. الدعاء سبب لانشراح الصدر. و سبب لدفع غضب الرب. و دليل على التوكل على الله. الدعاء سبب لدفع البلاء قبل نزولة. و لرفعه بعد حلوله. الدعاء يفتح للعبد باب المناجاة. الدعاء من صفات عباد الله المتقين. و سبب للثبات والنصر على المجرمين. ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ﴾ الدعاء مفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين. وأنيس الخائفين، والصلة برب العالمين.

 خرج الترمذي وغيره من حديث سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً».

وعند (حم، ت) عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما على الأرض مسلم يدعوا لله بدعوة إلا آتاه إياها، وصرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» فقال رجل من القوم : إذا نكثر يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم «الله أكثر».

والدعاء كريم على الله عظيم قدره، خرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء» .

واسمع يا رعاك الله إلى النداء الرباني، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى : يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة». الله اكبر، لا إله إلا الله.

عباد الله: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، انطرحوا بين يديه، وارفعوا حاجاتكم إليه، ومرغوا الأنوف والجباه، ولا تدعوا إلا إياه. واعلموا أن الدعاء، من أعظم ما يُستجلب به النصر، ويستدفع به البلاء ﴿أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ الدعاء سنة الأنبياء ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ .

الدعاء هو العبادة قالها نبيكم صلى الله عليه وسلم لأمته ليعلمها الارتباط الوثيق بربها، واللجوء إليه في سرائها وضرائها.