الحور بعد الكور

بسم الله الرحمن الرحيم

الحور بعد الكور

فقد كان الناسُ قبلَ الإسلام ، في جاهليّة جهلاء ، وفتنةٍ مضِلَّة عمياء ، يهيمون في الفِتن حَيارى ، ويخوضون في الأهواءِ سُكارى ، يتردَّدون في بحارِ الضلال ، ويجولون في أوديةِ الفساد والانحلال ، فبعثَ الله محمّدًا صلى الله عليه وسلم هاديًا إلى دينِ الإسلام ، وداعيًا إلى دارِ السّلام ، فبلَّغ عن ربِّه رسالاتِه ، وبيَّن المرادَ عن آياته ، حتى أسفر الحقُّ عن محضِه ، وأبدى الليلُ عن صُبحِه ، وانحطّت به أعلامُ الفُرقةِ والشِّقاق ، وانهشمت به بيضةُ أهل الزيغ والنِّفاق ، وما ماتَ صلى الله عليه وسلم حتّى أدّى ما عليه ، وقضى ما عُهِد إليه ، وترك أمّتَه على شريعةٍ غرّاء ، ومحجّةٍ نقيّة بيضاء ، ومنهَج كاملٍ وضّاء .

ولم يزل الأئمّةُ والعلماء متمسِّكين بسنته ، منافِحين عنها حتى استحالَت ذَنوبُ الإسلام بأيدِيهم غَربًا ، وصدَر الناسُ بعَطَن ، وأعزّ الله بهم دينَه ، فَحفِظوا شَريعتَه ، وأقاموا أوامرَه وشعائِرَه ، ومنَعوا كلّ أمرٍ فيه تذرُّعٌ إلى نقضِ عُراه ، أو هَدمِ قاعِدته ومَبناه ، وقطعوا طرُقَ التغيير من كلِّ جِهاتها ، وأوصَدوا جميعَ أبوابها ومَنافِذِها ، ولم يدَعوا للباطِل علَمًا إلا وَضعوه ، ولا رُكنًا إلا ضَعضَعوه ، بذلوا النفوسَ في إظهار الدين العظيمِ ، وجاهدوا من زاغ عن الصّراط المستقيم ، وراغ عن المذهبِ القويم ، نشروا السنّةَ والكتاب ، وأظهروا الفروضَ والآداب .

يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "سنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وولاةُ الأمر من بعده سُننًا ، الأخذُ بها اعتصامٌ بكتابِ الله ، وقوّةٌ على دينِ الله ، ليس لأحدٍ تبديلُها ولا تغييرها ، ولا النظرُ في أمرٍ خالفها ، مَن اهتدى بها فهو مهتدٍ ، ومن استنصَر بها فهو منصور ، ومن تركَها واتّبع غيرَ سبيل المؤمنين ولاّه اللهُ ما تولَّى وأصلاه جهنَّمَ وساءَت مصيرًا".

أيها المسلمون: ثم بَعُد الزمانُ عن عهد النبوّة ، وتقادم العهدُ بنورِ الرسالة ، وخَلَف خلوفٌ يهتدون بغير هديِه صلى الله عليه وسلم ويستنّون بغير سنّتِه ، ويسلكون غيرَ طريقَتِه ، في زمنٍ عادت فيه أعلامُ الدين إلى الدّروس ، وغلب على أهلِ الزمان العصيانُ وهَوَى النفوس ، وخرَج أكثرُهم بسفاهةِ عقولهم ، وضَعف تمييزهم ، من نورِ الطاعةِ إلى ظُلمةِ الفجور ، وامتَطوا ظهرًا لا ينجو راكبُه ، ولا يُفضي إلى نُجحٍ صاحبُه ، فهو بين هلاكٍ يُرهِقه ، وأشراكٍ توثقُه وتوبِقُه ، أوسَعَهم الشيطان تسويلاً ، واستهواهم تغرِيرًا وتضليلاً ، طردوا العافيةَ عن دُورهم ، وأنزَلوا الفِتنَ في جِوارهم ، صَمّوا عن النّذير ، وعَموا عن العِظةِ والتذكير ، وغطَّتِ الغفلةُ على سمعهم وأعيُنِهم ، وحالت بين قلوبهم وصدورِهم ، ضعفٌ في اليقين ، وخفقةٌ من الدّين ، ورِقّةٌ ولين ، فِتنٌ قد انعقد غمامُها ، وادلهمَّ ظلامُها ، وتلاطمت أمواجُها ، تأخذ كلَّ من استشرَف إليها إلى الوَرا ، وتُرجِعه القهقرَى ، يقول صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم «بادِروا بالأعمالِ فِتنًا كقِطَع الليل المظلم ، يصبِح الرجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا ، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دينَه بعَرَضٍ من الدنيا زائل» .

أيها الناس: إن من أعظم خصال المسلم الحق ، وأجلّ مميزاته ، الثبات على دينه ، والمحافظة على أخلاق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم دون أي تذبذب فيه ، أو انحراف عنه ، لشبهة عارضة ، أو شهوة جامحة ، أو فتنة بين الناس شائعة ، فإن التذبذب بين الحق والباطل ، وترك السنة الثابتة بعد التخلق بها ، ليس من شأن أهل الإيمان ، بل هو من شأن ذوي النفاق والكفران ، الموصوفين في محكم القرآن ، بالتناقص يبن الأقوال والأعمال ، والتقلب في سائر الأحوال ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ﴾ .

أما المؤمن الحق ، فإنه يكون مغتبطـًا بإيمانه بالله ، محققـًا لعبوديته لله ، والاتباع لنبيه صلى الله عليه وسلم معتدًا بإيمانه وعقيدته ، لا يقبل الذلة في دينه ، ولا المداهنة في عقيدته ، ولا المساومة على أخلاقه وقيمه ، بل يلازم الحق في كل حال ، ويحارب الباطل وأهل الضلال ، ويرد الباطل على من جاء به من الناس كائنًا من كان ، لا ينقاد لهوى باطل من قبل نفسه ، ولا يتابع غيره على خطأ ، لعلمه أن للناس أهواء وغايات ، وللبشر أخطاء ونزوات ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ .

أيّها المسلمون ، طوبى للثّابت على دينه ، الجارِي على سَننِه وأحكامه ، الماضي على مَراسِمه وأعلامه ، لا يتركه لغلَبة العوائد ، ولا لشوائبِ المحدَثاتِ الزوائد ، فادّرِعوا بصِدق الانقياد ، وتيقَّظوا من الغفلةِ والرّقاد ، واسلكوا سبيلَ الرَّشاد ، وحاذروا سبيلَ الكِبر والعِناد ، وتأهّبوا بخير الزادِ ليوم المعاد ، وجرِّدوا المتابَعَة ، واصدُقوا في الموافقة ، لما كان عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وصحابتُه الكرام ، تنجوا من الشقاء ، وتسلَموا من البلاء.

الخطبة الثانية :

فلقد ظهرت مناهج باطلة ، كثر أربابها وأتباعها ، وقام عليها منظرون ، ورؤوس جهال ، اقتطع كل منهم فئة من الأمة ، يبث فيها آراءه وأفكاره ، حتى التبس الحق بالباطل ، وأوعر الطريق إلى معرفة المنهج الصحيح ، إلا من وفق الله وهدى إلى منهج السلف الصالح ، وقليل أولئك.

 عباد الله : إنك لتعجب من أناس يتقلبون ، وعلى مبدأ واحد لا يثبتون ، ففي كل يوم لهم في المسألة قول ، وفي الحادثة حكم ، لا يستقرون على رأي ، ولا ينطلقون من دليل صريح ، أو نقل صحيح ، فبالأمس هذا حرام ، واليوم حلال ، بالأمس بدعة ، واليوم سنة ، هذه طائفة بالأمس لئام ، واليوم إخوة كرام ، وإذا قيل لهم في ذلك ، قالوا ذاك على ما أفتينا ، وهذا على ما نفتي ، فهلا وسعهم السكوت حين أعجزهم العلم ، وهلا ردوا الأمر إلى أهله وتسربلوا بلباس الحلم ، هلا لزموا كبار العلماء ، وكفا الأمة شر هذا التشرذم والعناء ، ولست أقصد ما يسع فيه الخلاف من المسائل ، ممن يحق الله المخالفة بمستند شرعي .

يا أتباع هؤلاء ، أما ظهر لكم الحق وبان ، أما آن أن تتركوا التعصب الأعمى والتقليد ، وتصدقوا في محبة الله وتجردوا التوحيد .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : الواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أن يكون اصل قصده توحيد الله ، بعبادته وحده لا شريك له ، وطاعة رسوله ، يدور على ذلك ، ويتبعه أين وجده ، ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة ، فلا ينتصر لشخص انتصاراً مطلقاً عاماً إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا لطائفة انتصارا مطلقاً عامة إلا للصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار ، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا ، فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط ، وقد كانت عقولهم راجحة ، وأذهانهم متوقدة ، وإفهامهم مدركة ، وهم أهل الفطرة والإيمان ، وأرباب الفصاحة والبيان ، نزل القرآن بلسانهم ، والرسول بينهم يوضح لهم ما أشكل عليهم ، ويبين لهم ما خفي عنهم ، ويوجههم إلى الطريق السليم ، والمسلك القويم ، ولذا حازوا قصب السبق في كل الفضائل ، ونالوا إمامة الدين في هذه الأمة بعده نبيها ، وتبوؤا في ذلك أعلى المنازل وأرفع الدرجات

عبدَ الله: يا مَن اختار النقيصةَ ، وتسربَلَ بالدنيَّة ، مَا لك على غَيِّك مُصِرًّا ، وعلى معاصيك مستمِرًا؟! أما تخاف السابِقة؟! أما تحذَر سوءَ الخاتمة؟! احذَر من أوعَدَ وهدّد ، وأنذَر وشدَّد وتوعَّد ، احذَر أن تُذادَ عن حوض النبيّ محمّد ، فعن أسماءَ بنتِ أبي بكر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إني على الحوض ، أنتظرُ من يرِد عليّ منكم ، وسيؤخَذ أناسٌ دوني ، فأقول: يا ربّ يا رب ، منِّي ومن أمّتي ، فيقال: هل شعرتَ بما عمِلوا بعدك؟! والله ما برِحوا يرجعون على أعقابهم ، إنهم ارتدّوا على أدبارِهم القهقرى ، فأقول: سُحقًا سُحقًا لمن بدّل بعدي» متفق عليه

أيّها المسلمون: عجبًا لقلبٍ عند ذِكر الحقِّ غيرِ خاشع ، عجبًا لعينٍ لا تسكُب المدامِع ، عجبًا لنفسٍ لا ترعوِي وتراجِع ، فاسترحِم مولاك ضارعًا ، وتُب إليه مُسارِعًا ، ادعُه راَغِبًا وراهبًا ، واسأله الهداية لما اختلف فيه ، فمن خَشيَ الله لم ينَله أذًى ، ومن رَجا الله كان حَيثُ رجا.