الفتاوى ومصطلحات حادثة

الفتاوى ومصطلحات حادثة - الخطبة الأولى

الفتوى ومصطلحات حادثة    

4/8/1431هـ(غ)

فإن شأن الفتوى عظيم، والكلام في الحلال والحرام خطير، لما فيه من نسبة الأحكام إلى شرع الله، ولاسيما إذا كان عن غير علم؛ كما قال الله عز وجل: (   قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ  )وقد جاء عن بعض السلف ذم المسارعة إلى الفتوى، ومن ذلك قول عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله يُسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، ما منهم من أحد إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا، وقال عثمان بن عاصم :إن أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر، و رأى رجلٌ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استُفتي مَن لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال: ولَبعضُ مَن يفتي ههنا أحق بالسجن من السرَّاق، قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا وإقدام مَن لا علم عنده على الفتيا وتوثبه عليها ومَدَّ باع التكلف إليها وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة ، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنَّة وآثار السلف نصيب!))

عباد الله : لقد أصبح الكلام في الأحكام الشرعية في هذا الزمان مهيعاً لكل أحد، يتسلق جدرانه كل من هب ودب ، وإذا كان في المسألة خلاف ولو كان شاذاً طاروا به وقالوا: إن الأخذ بأي قول من المسائل المختلف فيها سائغ  وإن لم يكن لذلك القول حظ من الدليل والنظر . ولقد عُلم أن من تتبع رخص العلماء وانتقى من زلاتهم ما يوافق الأهواء، فقد وقع في المحظور وتعاظمت عليه الشرور، فعن سليمان التيمي أنه قال: ((إذا أخذتَ برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله)) وعن الأوزاعي قال: ((من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام))، وقال ابن الصلاح ((من تتبع ما اختلف فيه العلماء وأخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد)) وقال الشاطبي((فإذا صار المكلف في كل مسألة عنَّت له ، يتبع رخص المذاهب وكلَّ قول وافق فيها هواه، فقد خلع ربقة التقوى، وتمادى في متابعة الهوى، ونقض ما أبرمه الشارع، وأخَّر ما قدَّمه))، وقال أيضاً  ((وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية حتى صار الخلاف في المسائل معدوداً في حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع، فيقال: لِمَ تمنع والمسألة مختلف فيها؟! فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة؛ حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمداً وما ليس بحجة حجة))، إلى أن قال: ((وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلاً لأمر الشارع وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه، ومن هذا أيضاً جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال وعدم التحجير على رأي واحد ويقول: إن الاختلاف رحمة، وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه أكثر المسلمين، ويقول له: لقد حجرت واسعاً وملت بالناس إلى الحرج وما في الدين من حرج وما أشبه ذلك، وهذا القول خطأ كله وجهل بما وضعت له الشريعة، والتوفيق بيد الله)) ومن أمثلة طوامهم في هذا الزمان، قول بعضهم: إن كشف وجه المرأة جائز، وإن حضور صلاة الجماعة في المساجد ليس بلازم، وإن في إغلاق الحوانيت لأداء صلاة الجماعة شلاً للحركة الاقتصادية، ومن قائل بحل الغناء، وآخر يبيح الذهاب للسحرة ، وثالث يزعم جواز الاختلاط ، فينتقون من الزلات ما يريدون بدعوى أن في ذلك خلافاً، فهل سيأتي يوم يبيحون فيه سب الصحابة أو القول بنقصان القرآن ، أو إنكار صفات الله عز وجل ، بدعوى أن في المسألة خلافا ، فالواجب عند الخلاف التعويل على ما يؤيده الدليل. 

عباد الله :  إن الخير كل الخير لكل مسلم ناصح لنفسه أن يصبر على طاعة الله ورسوله  ولو شقت على النفوس؛ لأن العاقبة حميدة، وأن يصبر عن المعاصي ولو مالت إليها النفوس؛ لأن العاقبة وخيمة، وقد قال : ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)) رواه مسلم

الفتاوى ومصطلحات حادثة - الخطبة الثانية

الحمد لله:

ظهرت في أيامنا مصطلحات حادثة ، وعبارات مصطنعة، هدفها الطعن في الدين وأهله، منها التسامح والتعددية وحرية الرأي والحوار المفتوح والرأي والرأي الآخر والأحادية والإقصائية وغيرها من تلك الشعارات المستوردة، هدفها التشنيع  على من يستمسك بالمنهج الصحيح ويتشبث بما كان عليه سلف الأمة من الحق، ويرفض كل منهج وطريق مخالف للحق الذي كان عليه الأسلاف، ويصفونهم بوصوف متعددة منفرة ، لغرض صد الناس عنهم وتشويه ما هم عليه من الاستمساك بالحق.

 

فالحق واحد لا يتعدد، وأهله جماعة واحدة ذات أصول واضحة لا خلط فيها ولا لبس. فالآحادية والإقصاء، عيب بزعمهم يصفون به أهل السنة المتمسكين بهدي الوحيين ، السائرين على خطى السلف الصالحين ،ويقصدون بالأحادية والإقصاء ، أنكم تزعمون أن الحق واحد لايتعدد وأنكم تقصون من خالفكم وتتهمونه بالوقوع في الخطأ ، ولو ناقشناهم بنفس مفهومهم لقلنا أن لاإله إلا الله أحادية وإقصاء فهي نفي وإثبات نفي العبودية عن كل ما سوى الله وإثباتها له تعالى ، وفي سورة الفاتحة يؤكد على هذا النوع من الآحادية والإقصاء ابتداء في سورة الفاتحة وقوله تعالى إياك نعبد وهذا يفيد إفراد العبادة لله تعالى وحده دون ما سواه، وإقصاء كل مألوه غيره ، و في قوله تعالى اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فجعل طريق الهدى الموصل إليه واحداً ، ووصفه بصراط المنعم عليهم؛ فهذه آحادية، وأقصى من سواهم وخص بالإقصاء المغضوب عليهم والضآلين ، و في قوله تعالى    وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ  هذه آحادية فالحق واحد غير متعدد.

وفي قوله  (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) أثبت أن الحق أمره ،والباطل ماخالفه، فهي أحادية وإقصاء . وقوله  في حديث الافتراق (وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة"، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كانت على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) خص فرقة واحدة فقط بالنجاة والفلاح من بين ثلاث وسبعين فرقة، هذه آحادية وحكم على باقي الفرق بدخول النار وهذا إقصاء. والقرآن والسنة زاخران، بأمثلة عديدة ومتنوعة كلها تصب في جانب آحادية الحق وإقصاء الباطل ، فلا عيب على أهل السنة أن دعوا إلى حق واحد ، وحذروا من سبل متفرقة.