أكل أموال الناس بالباطل

بسم الله الرحمن الرحيم

أكل أموال الناس بالباطل

أيها المسلمون: إن أكل الحلال من أسباب صلاح القلب، وزيادة الإيمان والنشاط في الأعمال الصالحة، والرغبة في الإحسان، وهو مما تحفظ به النعم الموجودة وتزاد، وتستجلب به النعم المفقودة وتقاد، فمن لطف الله بعباده أن يسر الحلال وأرشد إليه، وجعل طلبه من صالح الأعمال، ووعد أهله بفضله وكفايته، وحفظه ووقايته، ومغفرته وجزيل مثوبته، ويسر الأمر في الحال والمآل، ونهاهم عن الحرام، وزجرهم عن الأخذ بما يأتي به من الوسائل والأسباب، وتوعدهم على طلبه وأكله، بشديد العقوبة وأليم العذاب، وكفى بذلك موعظة لأولي الألباب.

عباد الله: كسب الرزق وطلب العيش، شيء مأمور به شرعاً، مندفعة إليه النفوس طبعاً، فالله قد جعل النهار معاشاً، وجعل للناس فيه سبحاً طويلاً. أمرهم بالمشي في مناكب الأرض ليأكلوا من رزقه، وقَرَنَ في كتابه بين المجاهدين في سبيله والذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه «ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده» (خ)

والاستغناء عن الناس بالكسب الحلال، شرفٌ عالٍ وعزٌّ منيفٌ، إن في طيب المكاسب، وصلاح الأموال، سلامة الدين، وصون العرض، وجمال الوجه، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلي من موطن أتسوق فيه لأهلي؛ أبيع وأشتري.

إن طلب الحلال وتحريه، أمرٌ واجبٌ، وحتمٌ لازمٌ، فلن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، إن حقاً على كل مسلم ومسلمة أن يتحرى الطيب من الكسب، والنزيه من العمل؛ ليأكل حلالاً وينفق في حلال.

انظروا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه يجيئه غلامه بشيء فيأكله فيقول الغلام: أتدري ما هو؟ تكهنت في الجاهلية لإنسان وما أُحسن الكهانة: ولكني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت. فأدخل أبو بكر يده في فيه فقاء كل شيء في بطنه، وقال: "لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها. اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالطه الأمعاء" .

أيها المسلمون: آكلُ الحرامِ مطرود، ودعاؤه مردُود،أرأيتم الرجل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم «يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء؛ يا رب يا رب، ومطعمه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك» لقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة، والحاجة والفاقة، ما يدعو إلى رثاء حاله، ويؤكد شدة افتقاره، تقطعت به السبل، وطال عليه المسير، وتغربت به الديار، وتربت يداه، واشْعَثَّ رأسه، واغبرَّت قدماه، ولكنه قد قطع صلته بربه، وحرم نفسه من مدد مولاه، فحيل بين دعائه والقبول. أكل من حرام، واكتسى من حرام، ونبت لحمه من حرام، فردَّت يداه خائبتين. قال بعض السلف: لو قُمت في العبادة قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك.

أيها المسلمون: خير سبيل للبعد عن المحرم ترك المشتبه، وسلوك مسالك الورع عند التردد، وفي الحديث «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» (خ،م) ولقد قال الحسن البصري رحمه الله: مازالت التقوى بالمتقين، حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: تمام التقوى أن يتقي العبد ربه؛ حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً؛ حجاباً بينه وبين الحرام.

أيها المسلمون: ويل للذين يتغذون بالحرام، ويُربون أولادهم وأهليهم على الحرام، إنهم كشارب ماء البحر كلَّما ازدادوا شرباً ازدادوا عطشاً، شاربون شرب الهيم، لا يقنعون بقليل، ولا يغنيهم كثير. يستمرؤون الحرام، ويسلكون المسالك المعوجة؛ أكلٌ لأموال اليتامى والقاصرين، أيمان فاجرة، مكرٌ وخديعة، زور وخيانة، مسالك معوجة، وطرق مظلمة، في البخاري يقول صلى الله عليه وسلم «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام» .

الخطبة لثانية:

عباد الله: يقول الله عز وجل ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾ إن كثيرا من الناس عظم بطنه، ونبت لحمه بمال غيره، إن استدان دينا جحده، وإن استقرض قرضا تظاهر أنه نسيه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» (م) .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني عمر قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا :فلان شهيد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلا إني رأيته في النار في بردة غلها، أو في عباءة غلها» (م) .

وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة على من مات وعليه دين، كما عند البخاري من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجنازة، فقالوا: يا رسول الله صل عليها، قال: «هل ترك شيئا؟» قالوا: لا، قال: «فهل عليه دين؟» قالوا: ثلاثة دنانير. قال «صلوا على صاحبكم» قال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعلي دينه، فصلى عليه .

عباد الله: لقد سلك الجشاع، وأهلُ الأطماع، طرقًا مِن المكر والغدرِ والخِداع، للسَّيطرةِ على أموال الضعفاء، والاستحواذِ على حقوقِ الفُقراء،واستغلالِ الرّعاع والدَّهماء، الذين أخنعتهمُ الحاجةُ، واضطرَّتهم الفاقةُ، وحمَلَهم حسنُ الظّنّ، وابتغاءُ الفضلِ والرّزق، للوقوع في الشَّرَك المنصوب، والشَّبَك المضروب، حتى إذا انكشَفَ الغِطاء، وانكشَفَ الغِشاء، ظهرت أماراتُ الغدرِ ؛ بأساليبَ ماكرةٍ، ومسالكَ فاجرة، لا تعدو أن تكونَ حُبلةً متلفة، ومكيدةً مهلِكة، وسَلبًا ونهبًا باسم المساهَمَة والاتِّجار، والعَقارِ والاستثمار، والتوفيرِ والادِّخار، ثم يدعي بعدها الإعسار.

فيا مَن باع دينَه بحفنةٍ منَ المال، يا مَن أكل أموالَ الناس بالباطلِ وطرُق المكرِ والاحتيال، تذكَّر يوم العرضِ والأهوال، تذكَّر يوم الوقوفِ بين يدي الكبير المتعالِ، تذكَّر يومَ لا ينفع الثرا ولا الأموال، تذكَّر يوم يقال: هذه غدرةُ فلان.

فيا حسرةَ من اشترَى النارَ، وغضَبَ الجبارِ، بمتاعٍ رخيص يضمحلّ ويزول ويحولُ، فأين من رَبا لحمُه على عظمِه، بمكاسِب الميسر والقمار، وأثمانِ الدّخان والخمور، والمخدِّرات وأطباقِ القنوات، والسّرِقة و الغُصوب،  وجحدِ الحقوق وكِتمان العيوبِ، والتلاعبِ بأثمان السّلَع، والغشِّ والنّجش، والتطفيفِ في المكاييلِ والموازينِ، وغيرها من صور التلاعب والاحتيال.

يا مانِعِي العُمّالِ أجورَهم، ويا باخسِي الأُجَرَاء حقوقَهم، نُزِعَت الشّفَقة مِن قلوبكم، وغارَت الرحمة مِن صدوركم، حتى أكَلتم حقَّ كَسير وحَسير، وملهوفٍ وفَقير، ومهيضٍ وأجير، له زوجةٌ ترِنّ، وطِفلٌ يحنّ، ومَريضٌ يئنّ، فتبًّا لكم أيّها الظالمون، وسُحقًا لكم أيها الجائِرون، وبُعدًا لكم أيّها الماكِرون، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: ثلاثةٌ أنا خصمهم يومَ القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجلٌ باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفَى منه ولم يعطِه أجره» أخرجه البخاري.