أقبل رمضان

بسم الله الرحمن الرحيم

أقبل رمضان

أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ في الموارد والمصادِر، فتقواه خيرُ ما أعِدَّ لليومِ الآخر، والمتّقِي هو المنتصر والظافِر ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً

أيها المسلمون: مِن أسباب سرورِ النّفس وبهجتِها، ومن بواعثِ فرحتِها وغِبطتها، عودةُ أيام السرور عليها، وبزوغُ شمسِ الهناء على ربوعها ، ولقد امتنَّ الله على العبادِ بشهرٍ كلُّه الخير والإفضال. الشياطين مصفَّدَة، وأبواب النيران مغلَقَة، وأبواب المغفِرة والرحمة مُشرَعَة.

عباد الله: أتاكم شهرُ الغفران المرتجَى، والعطاءِ والرّضا، والرأفةِ والزُّلفى، أتاكم شهرُ الصّفح الجميلِ، والعفوِ الجليل، شهرُ النّفَحات، وإقالةِ العثرات، وتكفيرِ السيّئات، فليكُن شهرُكم بدايةَ مَولدِكم، وانطلاقةَ رجوعِكم، وإشراقَ صُبحكم، وتباشيرَ فجركم، وأساسَ توبتِكم .

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

فمقاصد الصوم ضبط النفس وتهذيبها، وصوم الجوارح وحفظها، قال صلى الله عليه وسلم : «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» رواه البخاري

أيها المسلمون: بتلاوة القرآن يزداد المسلم جمالاً وبهاءً، ظاهراً وباطناً، قلباً وقالباً، وبه يزداد قدراً وشرفاً، فتلاوته هي التجارة الرابحة التي لا تبور، وفي هذا الشهر يعظم فضلها، ويرتفع شأنها، قال الزهري رحمه الله معبّراً عن شأن السلف: "إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام" ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ .

في رمضانَ تخفّ وطأةُ الشهوات، وترفَع أكُفّ الضراعة بالليل والنهار، فواحِدٌ يسأل العفوَ عن زلّته، وآخَر يسأل التوفيقَ لطاعته، وثالث يستعيذ به من عقوبَتِه، ورابع يرجو منه جميلَ مثوبته، وخامِس شغلَه ذكرُه عن مسألته، فسبحان من وفَّقَهم وغيرُهم محروم.

في الجنّة بابٌ لا يدخل منه إلاَّ الصائمون، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يومَ القيامة، لا يدخل منه أحد غيرُهم» أخرجه البخاري، الصّومُ كفّارة ومغفِرةٌ للذّنوب، فإنّ الحسنات تكفِّر السيئاتِ، فقد قال صلى الله عليه وسلم «من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه» الصّوم سبب السعادة في الدّارين، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم «للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطره، وفرحة عند لقاءِ ربّه، ولخلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المسك» .

عبد الله: ما ألذَّ المناجاة للهِ عند الأسحار، وما أسرَعَ إجابةَ الدعواتِ عندَ الإفطار، وما أحسَنَ أوقاتها من صيامٍ وقيام وتضرُّع واستغفار. هؤلاء الذين تشقَّقت أشداقُهم جوعًا في الدّنيا وقَلَصت شِفاههم عن الأشربةِ ظمأً يُقال لهم يومَ القيامة: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ﴾ قال مجاهد "نزلت في الصائمين".

قال الحسنُ البصريّ رحمه الله: "إنّ الله جعل شهرَ رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعتِه إلى مرضاتِه، فسبَق قومٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا. فالعَجَب مِنَ اللاّعب الضّاحك، في اليومِ الذي يفوز فيه المحسِنون، ويخسَر فيه المبطِلون" .

فيا من فرط في طاعة مولاه، وأضاع نفسه واتبع هواه، ولم يزدد في رمضان من الله إلا بعدًا، ولا من الرحمن إلا مقتًا وردًا، يا من ضيع عمره في غير الطاعة، يا من فرط في شهره وأضاعه، يا من بضاعته التسويف وبئست البضاعة، يا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة؟!

عباد الله : قلوب خلت عن التقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تتلى علينا آيات القرآن، وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا شهر رمضان، وحالنا فيه كحال أهل الشقوة.

أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوى، وإذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والبصائر؟! أما لنا فيهم أسوة؟!

فحريٌّ بالمسلم أن يبادرَ لينهَلَ من خيرات رمضان، ويستَقِيَ من فضائله، ويجِدَّ ويجتهد؛ ليكون حظُّه في النجاح أوفر، ونصيبُه في الفوزِ بالمغفرةِ أكبَر، وأهلِيّته للعتقِ من النار أوكَد.

الخطبة الثانية:

أيّها المسلمون: المؤمِن ليس معصومًا من الخطيئة، وليسَ في منأى عنِ الهَفوة، ليس في معزِل عن الوقوعِ في الذنب، كما عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والّذي نفسِي بيَدِه، لو لم تذنِبوا لذَهَب الله بكم، ولجاءَ بقومٍ يذنِبون فيستغفِرون اللهَ فيغفِر لهم» كم من مذنبٍ طال أرقُه، واشتدَّ قلقُه، وعظُم كمَده، واكتوى كبِدُه، يتلمَّس نسيمَ رجاءٍ، ويبحَث عن إشراقةِ أمَل، ويتطلَّع إلى صُبحٍ قريب، يشرِق بنورِ التوبةِ والاستقامةِ ؛ وإنَّ الشعورَ بوطأةِ الخطيئةِ، والإحساسَ بألمِ الجريرةِ، والتوجُّع للعَثرةِ، والنّدمَ على سالف المعصية، والتأسُّف على التفريط، والاعترافَ بالذّنب، هو سبيلُ التصحيح والمراجعةِ، وطريق العودَة والأوبة.

وأمّا ركنُ التوبةِ الأعظم، وشرطُها المقدَّم، فهو الإقلاعُ عن المعصيةِ، والنّزوع عن الخطيئةِ، ولا توبةَ إلا بفعلِ المأمورِ، واجتناب المحظور، والتخلُّص من المظالم، وإبراءِ الذمّة من حقوق الآخرين. ومن شاء لنفسِه الخيرَ العظيم، فَليُدلِف إلى بابِ التوبَة وطريقِ الإيمان، وليتخلَّص من كلِّ غَدرَة، وليُقلِع عن كلِّ فَجرة ، يستوجِبُ العفوَ الفتى، إذا اعترَف ثم انتهَى، عمّا أتاه واقترَف؛ لقوله سبحانه في المعترِف ﴿إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ .

أيّها المسلمون: التّوبةُ خضوعٌ وانكسَار، وتذلُّل واستغفارٌ، واستِقالَة واعتِذار، وابتِعاد عن دواعِي المعصيةِ، ونوازِع الشرِّ، ومجالس الفِتنة، وسُبُل الفساد.

 التوبةُ صفحةٌ بيضاء، وصفاءٌ ونقاء، وخشيَة وإشفاق وبكاء، وتضرُّع ونداء، وسؤالٌ ودعاء، وخوفٌ وحياء. بابُها مفتوح، وخيرُها ممنوح، ما لم تغرغِر الروح، فعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: يا ابنَ آدم، إنّك ما دعوتني ورجَوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي. يا ابنَ آدم، لو بلغَت ذنوبك عَنانَ السماءِ ثم استغفرتني غفرتُ لك. يا ابنَ آدم، إنك لو أتيتني بقرابِ الأرض خطايا ثم لقيتَني لا تشرِك بي شيئًا لأتيتُك بقرابها مغفرةً» .

فيا له من فضلٍ عظيم، وعطاء جسيم، من ربٍّ كريم، وخالقٍ رحيم، أكرمنا بعفوِه، وغشَّانا بحِلمِه ومغفرتِه، وجلَّلنا بسِتره، وفتح لنا بابَ توبته. يعفو ويصفَح، ويتلطَّف ويسمَح، وبتوبةِ عبدِه يفرَح ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ

أيّها المسلمون: هذه التوبةُ قد شُرِعت أبوابُها وحلَّ زمانها وإِبّانها ونزل أوانُها، فاقطعوا حبائلَ التسويف، وهُبّوا مِن نومَةِ الرّدى، وامحوا سوابِقَ العِصيان بلواحِقِ الإحسان، وحاذِروا غوائلَ الشيطان، توبوا إلى الله عزّ وجلّ من فاحشاتِ المحارم، وفادحات الجرائم، وورطةِ الإصرار، توبوا على الفورِ، وأحدِثوا توبَةً لكلّ الذنوب التي وقعت، وتوبوا من المعاصِي ولو تكرَّرت .

ولا تكن ممّن قال: أستغفِر الله بلسانِه، وقلبُه مصِرٌّ على المعصيةِ ، وهو دائمٌ على المخالفة ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ