التحذير من زلات اللسان

بسم الله الرحمن الرحيم

التحذير من زلات اللسان

الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما وهو على كل شيء شهيد, أحاط علمه بالظاهر والخفي والقريب والبعيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو الولي الحميد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل العبيد، صلى الله عليه وآله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم الرشيد، وسلم تسليما... أما بعد:

عباد الله: نعمة من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، صغير حجمه، عظيم طاعته وجرمه، لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادته. به يعبر الإنسان عن بغيته، ويفصح عن مشاعره، به يطلب حاجته، ويدافع عن نفسه، ويعبر عن مكنون فؤاده، يحادث جليسه، ويؤانس رفيقه، وبه السقطة والدنو، والرفعة والعلو.

ذلكم عباد الله: هو اللسان، رحب الميدان، ليس له مرد، ولا لمجاله منتهى وحد، فمن أطلقه عذبه اللسان، ومن أهمله مُرخى العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار، إلى أن يضطره إلى دار البوار، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع. وينبغي للمكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام: إلا كلاما ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه، فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء.

عباد الله: في اللسان آفتان عظيمتان إن خلص من أحدهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت، وقد يكون كل منهما أعظم من الأخرى في وقتها، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاص لله، مراء مداهن إذ لم يخف على نفسه، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاص لله، وكثرة آفات اللسان في: الخطأ والكذب، والغيبة والنميمة، والنفاق والفحش، والمراء وتزكية النفس، والخوض في الباطل، والخصومة وإيذاء الخلق، وهتك العورات وغيرها.

عباد الله: لقد شاع بين كثير من الناس، أخلاق سيئة من حصائد اللسان، فكثير من الناس لا يبالون بالكذب، ولا يهتمون به، ولم يحذروا من قول النبي: «إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» كثير من الناس، يظنون ظنونا كاذبة، فيشيعها في الناس من غير مبالاة بها، وربما كانت تسيء إلى أحد المسلمين وتشوه سمعته، وليس لها حقيقة، فيبوء بإثم الكذب، وإثم العدوان على أخيه المسلم، ويخشى أن يكون ممن قال فيهم النبي: «إن الرجل يتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار» كثير من الناس، يلعنون من لا يستحق اللعن، تجد الواحد منهم يلعن أخاه المسلم، وربما لعن أخاه لأبيه وأمه، بل لربما لعن ولده أو أمه أو أباه، وهذا غاية ما يكون من الجهل والحماقة، فقد ثبت أن النبي قال: «إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة» وفي الحديث عنه أنه قال:«إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يمينا وشمالا فإن لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لُعن فإن كان أهلا وإلا رجعت لقائلها» وتجد الواحد من الناس، يسب أخاه عند المخاصمة سبا قبيحا، قد يكون متصفا به، وقد يكون غير ذلك، وفي الحديث عن النبي أنه قال: «المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يبتدئ المظلوم» يعني إن إثم المتسابين يكون على من ابتدأ السب أولا.

عباد الله: ليحذر المؤمن من تلك الآفات، فإنه محاسب ومجازى ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾.

و(م) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» .

وجعل صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وحين سئل عن أكثر ما يدخل النار؟ قال: الفم والفرج.

وبين عظم الأمر، وخطورة اللسان، والكلام الذي يصدر منه بقوله كما عند (م) : «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب».

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : "ومن العجب ! أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم والزنا، والسرقة وشرب الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله، لا يلقي لها بالا، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول" أ.هـ

ويقول عطاء بن رباح: إن من كان قبلكم كانوا يعدون فضول الكلام: ما عدا كتاب الله، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو أن تنطق في معيشتك التي لا بد منها، أتنكرون أن عليكم حافظين، كراما كاتبين، عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، أما يستحي أحدكم لو نُشرت صحيفته التي أملى صدر نهاره، وليس فيها شيء من أمر آخرته أ.هـ

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: مما شاع بين الناس وفي بعض المجالس، السخرية والاستهزاء ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ﴾ والسخرية هي: الاستهزاء والتحقير، والتنبيه على العيوب والنقائص، وقد يكون ذلك في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء. وأشد أنواع الاستهزاء: الاستهزاء بالدين وأهله، ولخطورته وعظم أمره، أجمع العلماء على أن الاستهزاء بالله وبدينه وبرسوله كفر بواح يخرج من الملة بالكلية.

ولقد تفنن البعض في أنواع السخرية والاستهزاء، فهناك من يهزأ بالحجاب، وآخر بتنفيذ الأحكام الشرعية، وآخرون سلقوا رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بألسنتهم، كما أن للسنة أيضا نصيبا من ذلك الاستهزاء، فهذا يستهزئ باللحية، وآخر بقصر الثوب، وهما من سنن المصطفى

ولنعلم خطورة الاستهزاء على دين الرجل ما نسمعه يتلى في سورة التوبة ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ

والبعض إذا قيل له: إن ما تقوله من باب الاستهزاء بالدين، قال: نحن لم نقصد الدين، ولم نقصد الرجل بذاته، بل نمزح ونمرح، وما علم المسكين إلى أين يؤدي مرحه، إنه خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة، وقد حذر النبي من فلتات اللسان، وضحكات المجالس فقال صلى الله عليه وسلم كما عند (حم) : «إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساؤه يهوي بها من أبعد من الثريا».

فاحفظوا ألسنتكم لا تطلقوا عنانها فتهلككم وإذا أردتم الكلام في شيء فتذكروا قول الله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ وقوله صلى الله عليه وسلم : «من كان مؤمنا بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» واعلموا أنكم محاسبون على كل كلمة تخرج من أفواهكم فما جوابكم يوم القيامة إذا سئلتم ألم تتكلم بكذا وكذا فمن أين وجدت ذلك وكيف تكلمت ولم تتبين الأمر. أيها المسلم لا تطلق لسانك بالقول لمجرد ظن توهمته أو خبر سمعته فلعلك أن يكون ظنك كاذبا ولعل الخبر أن يكون كاذبا وحينئذ تكون خاسرا خائبا.

عباد الله: اتقوا الله تعالى واعلموا أنه ما من أحد إلا وقد وكل الله به ملكين أحدهما عن اليمين والثاني عن الشمال, أحدهما مأمور بكتب الحسنات والثاني مأمور بكتب السيئات فما تلفظون من قول ولا تعملون من عمل إلا كتب عليكم وأحصي عليكم إحصاء لا يغادر صغيرة ولا كبيرة سواء تلفظتم بذلك جهرا أو سرا، وسواء فعلتم الفعل خفية أو علانية فكل ذلك يكتب عليكم ويحصى ثم تنبئون يوم القيامة ويعطى كل إنسان كتابه فيقال: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ فطوبى لعبد ملأ كتابه بالخير والأعمال الصالحات وبؤسا لمن سود كتابه بالشر والأعمال السيئات.

ولنتأمل عباد الله فيما قاله نبينا كما عند (م) حينما قال لأصحابه: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وحج، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار».

اللهم نزه ألسنتنا عما يشين، وسخرها في طاعتك يا كريم.