العفة والعفاف

بسم الله الرحمن الرحيم

العفة والعفاف

عباد الله: ما طعِمَ الطّاعِمون كالحلالِ الكفافِ، وما رِداءٌ خيرٌ من رِداء الحياءِ والعفاف. فهما سِيمَا الأنبياءِ، وحِليةُ العلماء، وتاجُ العُبَّاد والصّلَحاء، العفافُ سلطان من غيرِ تاجٍ، وغِنًى من غير مالٍ، وقوّة من غيرِ بَطش، وخُلُق كريم، وصِفة نبيلة. هو عنوان الأسَرِ الكريمة، والنفوسِ الزّكية الشريفةِ، ودَليل التربية الصالحة.

العِفّة كفُّ النفس عمّا لا يحِلّ ولا يجمُل، وضبطُها عن الشهواتِ المحرَّمة، وقصرُها على الحلال، مع القناعةِ والرِّضا. إنّه سُمُوّ النفس على الشّهواتِ الدنيئة ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ ثم قال ﴿أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾ ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ وفي صحيح مسلم لما ذكَر النبيّ صلى الله عليه وسلم أهلَ الجنة قال: «منهم عفيفٌ متعفِّف»

وحين تُعرَض القصَصُ فإنّ أحسَنَها قصّةُ يوسفَ الكريم ، حين يكون العفافُ سيّدَ الموقِف، في ظرفٍ تتهاوَى فيه عزائمُ الرّجال الأشدّاء، فضلاً عن فتًى غريبٍ نائي الأهلِ والديار، حين راودته التي هو في بيتها عن نفسه ﴿وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ إنها كلِمةٌ عظيمة، في موقفٍ عصيب، لا يقوَى عليه إلا صاحبُ الإيمان، فيصبِر عليه السلام، رغمَ الوَعدِ والوعيد، والسّجنِ والتهديدِ، ويتجاوَزُ المحنةَ، فآتاه الله الملكَ وعلَّمه من تأويل الأحاديث.

العِفَّةَ عاقبتُها الغناءُ والاستغناء، ونورُ القلب والبصيرةُ والضياء، والعِلمُ والفراسة والتّوفيق؛ ذلك أنَّ العِفّةَ في حقيقتها مراقبةُ الله تعالى وخوفُه، ومَن راقب الله في خواطِرِه، عصَمَه في حركاتِ جوارحه ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ .

أيّها المسلمون: العفّة برهان على صدق الإيمان، وطهارة النفس وحياة القلب، وهي عِزُّ الحياة وشرفها، بها تحصل النجاة من مَرارات الفاحشة، وآلام المعصية، وحسرات عذاب الآخرة، الخارج عنها قَذِرُ المَشْرَبِ، خبيث المَرْكَبِ، نَتِنُ المَطْلَب، ضالّ المذهب، موصوف بأقبح الأوصاف وأسْوَء النُّعُوت، الخزي يلاحقه، والهلاك يدركه، والعذاب يهلكه.

عباد الله: إنَّ الحديث عن صيانةِ الأعراض، وتزكيةِ النفوس، وتطهيرِ الطِّباع، وتنمية دواعِي العِفّة والطهارة، ليست شعاراتٍ عاطفيّة، أو مجرَّدَ كمالاتٍ خُلُقيّة، إنها أصلُ تماسُك المجتمع، وبِنية أساسٍ لبقائه، ومقصد عظيمٌ من مقاصِدِ الشرع الحنيف، ولأجل هذه المقاصدِ السامية، جاءت شريعةُ الإسلام، بما يكفَل الأمنَ الخلقيّ، بل بايع النبيُّ صلى الله عليه وسلم نُقَباء الأنصارِ ليلةَ العقبة الأولى، على التوحيدِ وتركِ الزنا، كما في البخاريّ من حديثِ عبادةَ بن الصامت رضي الله عنه .

وفي الكتابِ العزيز والسنّةِ المطهَّرة آدابٌ شتَّى للنظرِ والاستئذان، والتستُّر والتكشُّف والزِّينةِ، وسفَر المرأة وخَلوَتها، وعودةِ الرجل إلى بيتِه، وموقف المرأةِ من أقاربها وأقاربِ زوجها، وحقِّ الوالدين وحقوقِ الأولاد، وآدابِ الاستماع ، والنهي عن الاطِّلاع على عوراتِ البيوت وتتبُّع العَثَرات، وهي آدابٌ مفصَّلة يجب على المسلمينَ أن يلتَزِموهَا ويربُّوا أهلَهم عليها؛ ذلك أنَّ من أعظم مقاصِدِ الشريعة إقامةَ المجتمَع الطاهِر المحاطِ بالخُلُق الرفيع والمُبَطَّن بالعِفّة والحشمة والوقار.

وحيثَّ إن أعظمَ أبوابِ الشّرّ، وأوّلَ مدخلٍ للشيطان، هو إطلاقُ البَصَر والاختلاط، لذا صارت أحكامُ الحجابِ والقَرار في البيوت، والأمر بغَضِّ البصر للرجال والنساء، قال سبحانه ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ﴾ بل حتى في الحديثِ العابِر بين الرّجل والمرأة الأجنبيّة عنه ﴿إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفاً﴾ إنّه سدٌّ لمنافِذِ الشيطان ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾.

أيّها المسلمون: وحيث جاءَ الإسلام بكلِّ ما يحفَظ ويصون هذا السياجَ، فقد حرَّم كلَّ ما يهتِكه ويفسِده، وقد علِم كلُّ مسلمٍ حرمةَ ما يعارِضه ويناقضه، مِن دعواتِ السّفورِ والاختلاطِ، في الأعمال والجامِعات، والمجالِسِ والمؤتمَرات، لئلاَّ يُكسَر حاجِز الحياء، وتُنبَذ الحِشمة. ولقد علِم الراشِدون أنَّ التقدّمَ والتخلّفَ، له أسبابُه وعوامِله، وإنَّ إقحامَ السَّترِ والاحتشام، والخلُق والالتزام، والعِفّة والفضيلة، وجعلَها عواملَ للتخلُّف، لهو خِداع مكشوف، وتمريرٌ مفضوح، لا ينطلي على متبصِّر.

الخطبة الثانية :

إنَّ الحياةَ الطاهِرة، تحتاج إلى عزائِمِ الأخيارِ، وأمّا عيشةُ الرذيلة، فطريقُها سهلُ الانحدار، والبيوتُ التي تظِلّها العفّةُ والحِشمة، تورِق بالعزِّ والكرامة، أمّا البيوتُ التي يملؤهَا الفحشاء والمنكرُ، فلن تنبُتَ إلاّ بالذّلِّ والمهانة، وإذا أمَر الله تعالى بوقايةِ النفس والأهل من النارِ، التي وقودُها الناس والحجارة، وأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ كلَّ راعٍ مسؤول عن رعيّته، فإنَّ المسلِمَ يجب أن تكونَ له وقفةٌ للهِ، لتجنيبِ نفسِه ومن يَليه، ما جلبته وسائلُ الاتِّصال والبَثِّ، مِن ذبحٍ للفضيلة، ونشرٍ للرذيلة، وإماتةٍ للغيرة، وكيف يستسيغُ مسلمٌ هذا الغثاءَ المدمِّر؟! أين الحِفظُ والصِّيانة، مِن بيوتٍ هيَّأت لناشِئَتها أجواءَ الفتنة، وجلَبت لها محرِّضاتِ المنكَر؛ تجرُّها إلى مستنقَعات الفُحش جرًّا، وتَدُعُّها إلى الخطيئةِ دَعًّا.

فيا سعادة من عَفَّ، ويا فوز من كَفَّ، ويا هَنَاءَة من غضّ الطرف، طوبى لمن حفظ فرجه، وصان عِرضه، وأحصن نفسه، ففي البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من يَضْمَنُ لي ما بين لَحْيَيْهِ وما بين رِجْلَيْهِ أَضْمَن له الجنة» .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله»، فعدّهم، ومنهم: «رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله» متفق عليه

يا من تاقت نفسه إلى النكاح، وعَجِزَ عن طَوْله، وتعَذّر عليه صداقه، وعَسُرت عليه أُهْبَتُه ونفقاته، استعفف عن الحرام، وترفّع عن الآثام، وأصغِ السمع لقول الملك العلاّم: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ وقد تكفّل الله بمقتضى وعده في إعانة الناكح يريد العفاف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة حقّ على الله عزّ وجل عونهم: المكاتَب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله» أخرجه الترمذي والنسائي

والصور المحرمة تنجس النفس، وتقوي إرادتها على التمرّد والعصيان، وهل أنتجت مشاهد الإثارة، ولقطات التهييج، وصور العري، إلا خرق سياج العفّة والشرف، وشيوع الجريمة الأخلاقية، وفقدان الأمن، وانتشار الاعتداءات المروّعة، وما عساه يُجنَى من أفلام ومجلات، وقصص وروايات، وأطباق وقنوات، جعلت الإثارة إحدى ركائزها، وتأجيج الغرائز أساس قيامها، ومحاربة العفة والطهارة من أولويات أهدافها.

أخي الشاب : يا من ابتليت المسلمات بالمعاكسات والمهاتفات، تذكر هذه الأبيات:

عُفـّوا تعف نسـاؤكم فـي المحـرم *** وتجنبـوا مـا لا يليـق بمسـلم

يـا هاتكـاً حُـرم الرجـال وتابعاً *** طـرق الفسـاد فأنت غيـر مُكـرّم

مـن يـزن في قـوم بألفـي درهم *** فـي أهلـه يـزنى بربـع الدرهـم

إن الزنـا ديـن إن اسـتقرضـته *** كـان الوفـا من أهـل بيتك فاعـلم

لـو كنت حـراً من سـلالة مـاجد *** مـا كنت هتاكـاً لحرمـة مسـلم