فضل طاب العلم

بسم الله الرحمن الرحيم

 فضل طلب العلم  

 20/7/1431 هـ (ج)

عباد الله: اتقوا الله تعالى وتعلموا من العلم ما تعرفون به ربكم، ويستقيم به دينكم، وتستنير به قلوبكم، وتصلح به دنياكم وآخرتكم؛ لأن العلم نور يخرج من الظلمات، وتزول به الشبهات، وتستقيم به الأعمال، فإن العمل بلا علم ضلال ووبال، وفضائل العلم كثيرة:

أعظمها: معرفة الرب سبحانه بأسمائه وصفاته، ومنها أن العلم طريق إلى الله وإلى جنته. كما قال النبي كما عند (حم، د، ت ) من حديث أبي الدرداء : (( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب، وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم. فمن أخذ به أخذ بحظ وافر )). 

وفيه الحث على السعي في طلب العلم وذلك بالسفر إلى أهله حيث كانوا وبحفظه وكتابته وتدوينه، فقد كان السلف يرحلون المسافات الطويلة لطلب حديث واحد. فقد رحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر للقاء رجل من الصحابة يروي عنه حديثاً عن النبي لم يكن عنده. ورحل جابر بن عبد الله الأنصاري كذلك. وكان أحدهم يرحل إلى من دونه في العلم والفضل لطلب شيء من العلم عنده لم يبلغه، ويكفي في هذا ما قصه الله تعالى من خبر موسى عليه الصلاة والسلام ورحيله مع فتاه لطلب العلم مع ما أعطاه الله من العلم واختصَّه من التكليم وكتب له في التوراة من كل شيء، ولما أخبره الله عن الخضر وأن عنده علماً يختص به سأل السبيل إلى لقائه ورحل في طلبه، كما قال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ). يعني: سنين عديدة. ثم إنه لما لقيه قال: ( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا )، فلو استغنى أحد عن الرحلة في طلب العلم لاستغنى موسى عليه السلام وقد أمر الله نبيه محمداً أن يسأله المزيد من العلم، قال تعالى: ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) فلم يسأل ربه الزيادة من شيء إلا من العلم.

ومهما بلغ الإنسان من العلم فهناك من هو أعلم منه، قال تعالى: ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ )، قال الحسن البصري رحمه الله: ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عز وجل . . . وفي حديث أبي الدرداء دليل على أن الجنة لا يوصل إليها إلا بالعلم النافع والعمل الصالح، فمن طلب الجنة بذلك فقد طلبها من أيسر الطرق وأسهلها.

ومن سلك طريقاً يظنه طريق الجنة بغير علم، فقد سلك أعسر الطرق وأشقها، ولا يصل إلى مقصوده مع تحمله المشاق، فلا طريق إلى معرفة الله وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بقربه ومجاورته في الآخرة إلا بالعلم النافع الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يهتدي في ظلمات الجهل والشبهات والشكوك. وقد سمى الله كتابه نوراً يهتدي به في الظلمات، قال الله تعالى: ( قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ). وفي حديث أبي الدرداء أيضاً: أن العلم الذي يُمدح أهله ويسمون العلماء حقيقة هو العلم الشرعي الذي جاءت به الرسل. حيث قال : (( وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر )).

فكل مدح وثناء جاء في الكتاب والسنة للعلم والعلماء فالمراد به علم الأنبياء وحملته من المؤمنين العاملين به، قال تعالى: ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )، وقال تعالى: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ). وقال تعالى: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ). وقال تعالى: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ).

وقد شبه النبي من حمل العلم الذي جاء به بالنجوم اللتي يهتدي بها في الظلمات، فقال فيما خرجه ( حم ): (( إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا طمست النجوم أوشك أن تضل الهداة )) قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وهذا مثل في غاية المطابقة لأن طريق التوحيد العلم بالله وأحكامه وثوابه وعقابه لا يدرك بالحس، إنما يعرف بالدليل وقد بين الله ذلك كله في كتابه وعلى لسان رسوله، فالعلماء بما أنزل الله على رسوله هم الأدلاء الذين يهتدون بهم في ظلمات الجهل والشبه والضلال، فإذا فُقِدوا ضل السالك، وقد شبه العلماء بالنجوم. والنجوم فيها ثلاث فوائد: يهتدى بها في الظلمات، وهي زينة للسماء، ورجوم للشياطين الذين يسترقون السمع.

والعلماء في الأرض تجتمع فيهم هذه الأوصاف الثلاثة: بهم يهتدى في الظلمات، وهم زينة للأرض، وهم رجوم للشياطين الذين يخلطون الحق بالباطل ويدخلون في الدين ما ليس منه.

وما دام العلم باقياً في الأرض فالناس في هدى، وبقاء العلم ببقاء حملته، فإذا ذهب حملته وقع الناس في الضلال. كما في الحديث الصحيح عن النبي : (( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يذهب العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )).

الخطبة الثانية

قال : (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )). دل هذا الحديث على أن الذي لا يفقه أمور دينه فإن ذلك دليل على أن الله لم يرد به خيراً، ولو تعلم العلوم الدنيوية وتبحر فيها، لأنها علوم معاشية فقط لا تستحق مدحاً ولا ذماً. وقد وصف الله سبحانه أصحابها بأنهم لا يعلمون فقال: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ). فأكثرهم ليس لهم علم إلا بالدنيا وشؤونها، فهم فيها حذاق أذكياء، وهم غافلون عن أمور الدين وما ينفعهم في الآخرة.

قال الحسن البصري: والله ليبلغ أحدهم بدنياه أنه يقلب الدينار على ظفره، فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي. وقد نفى الله عنهم العلم، مع أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، فدل على أن ذلك لا يستحق اسم العلم ولا يستحق صاحبه أن يسمى عالماً، لأن العلم إذا أطلق فالمراد علم الشرع، وإذا مدح العلم فالمراد به علم الشرع. فأين هذا من الذين عكسوا الأمر وجعلوا العلم الدنيوي هو العلم عند الإطلاق، وخلعوا على أصحابه ألقاب المديح والإكبار؟ مع أنهم في الغالب أجهل الخلق بأمور دينهم وآخرتهم، وقد حملهم علمهم هذا على الغرور والاستكبار في الأرض وإنكار وجود الخالق، فها هي الشيوعية والعلمانية اليوم تنكر وجود الله وتستكبر بعلومها على عباد الله، وتخترع آلات الدمار. ومن الأمم الكافرة من أنكر علم الرسل واغتر بما عندهم من علم الدنيا، كما قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ).

قال ابن كثير: وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل بالبينات، والحجج القاطعة، والبراهين الدامغات، لم يلتفتوا إليهم ولا أقبلوا عليهم، واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم عما جاءتهم به الرسل.

عباد الله: إن العلم الشرعي الذي جاءت به الرسل فيه صلاح العباد والبلاد أما علوم البشر ومخترعاتهم فالغالب أن فيها الدمار وإهلاك الحرث والنسل، كما هو الواقع اليوم من الأسلحة الفتاكة والقنابل المدمرة، وعلوم الشرع تعرف بالله واليوم الآخر، وعلوم البشر وتقنياتهم يغلب أنها تبعث على الغرور والجهل بالله وسننه الكونية وتنسى الآخرة.

ونحن لا ننكر ما فيها من نفع إذا استُغِلّت في الخير، وكانت بأيد مؤمنة، ولكن ننكر أن تحاط بهالة التقديس والإكبار، ويطلق عليها وعلى أصحابها العلم والعلماء، ويفسر بها كتاب الله وسنة رسوله.