فاستبقوا الخيرات

بسم الله الرحمن الرحيم

فاستبقوا الخيرات

فيا أيها الناس: اتقوا الله واجتهدوا فيما يحبه ويرضاه، وتوبوا إلى ربكم  قبل أن ينظر المرء ما قدمت يداه؛ فإن الله تعالى قد أقام عليكم الحجة فيما شرع لكم من الهدى، وأسبغ عليكم النعمى، وأمهلكم إلى أجل مسمى، وكل إلى نفاد وشيك، وزوال قريب، ولن يزيد في العمر المحدود، طول الأمل الممدود، فأكثروا من صالح العمل، قبل نفاذ الأجل، وتأهبوا للنقلة، فإن الرحيل قريب، وتزودوا للمسير، فإن السفر بعيد، والمعاد مضمار العباد، فبادروا بالخير، ما دمتم في مهل الأنفاس، وجدة الأحلاس، فلن يهمل من الأعمال صغير ولا كبير، ولن يظلم أحد ذرة فضلاً عن النقير والقطمير.

أيها المسلمون: جاء في سنن الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسيا، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر».

وفي التنزيل يقول الرب الجليل: ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ .

عباد الله: افعلوا الطاعات، واستبقوا الخيرات، وسارعوا إلى المغفرة والجنات، بادروا في ذلكم الأعمار، واشغلوا به لحظات الليل والنهار؛ فإن من سارع إلى الخيرات سبق، ومن أخذ بمنهاج السلف الصالح لحق ﴿أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ فتحروا الخير تهدوا إليه، ولازموه حتى تلقوا ربكم عليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم «يبعث كل امرئ على ما مات عليه».

عباد الله: خصال الخير كثيرة، جعلها الله أسباباً لمحو الخطيئات، وكثرة الحسنات، ورفعة الدرجات، والنجاة من النار، فتنافسوا فيها تكونوا من أهلها، ولازموها تعرفوا بها.

الساعي لغيرِ باب الله عاثِر القدَم، والشاكر لغير نِعَم الله مسلوبُ النِّعم. العُمُر محسوب، والعمَل مكتوب، والوقتُ يمرّ مرَّ السحاب، والموعِد يومُ الحساب.

قال بكر المزني رحمه الله: "ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا إلا يقول: ابن آدم اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي" .

أيّها المسلمون: النّاس في هِمَمِهم متفاوتون، وفي طبائِعهم متمايِزون، وفي ميولهم ورغباتِهم متنوِّعون ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ .

ولقد خلق الله الخلقَ لعبادته وطاعتِه، ولكنّه سبحانه قسم حظوظَهم ، وفاوت بينهم ، فمِنهم من كتبه مصلِّيًا قانتًا، ومنهم من كتبه متصدِّقًا محسنًا، ومنهم من كتبه صائمًا، ومنهم من كتبه مجاهدًا. يفتحُ لهم من أبوابِ الطاعات المطلوبات، من نوافل العباداتِ، وفروض الكفايات، ما يتنافس فيه المتنافسون ويتمايَز به المتسابقون .

في (خ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: «من أنفَق زوجين من شيءٍ من الأشياء في سبيلِ الله دُعِي من أبواب الجنة: يا عبد الله، هذا خيرٌ، فمن كان من أهلِ الصلاة دُعِي من باب الصلاة، ومن كان من أهلِ الجهاد دُعِي من بابِ الجِهاد، ومَن كَان من أهل الصّدقة دُعي من بابِ الصدقةِ، ومن كان مِن أهل الصيام دُعِي من باب الصيام وباب الريان» ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما على هذا الذي يُدعَى من تلك الأبواب من ضرورة قال: هل يُدعَى منها كلِّها أحدٌ يا رسول الله؟ قال: «نعم، وأرجو أن تكونَ منهم يا أبا بكر» .

أيّها المسلمون: العمل الصالح واسعُ الميادين، شامل المفاهيم، ينتظم أعمالَ القلوب والجوارحِ ، في الظاهر والباطن ، فتنافسوا في أعمالِ البرّ، ولتكن الهِمَم عالية، في المسابقة إلى الخيرات، والمنافسة في الأعمال الصالحة، ليغتنمِ العبد ما فتِح له من هذه الأبواب من النوافل وفروض الكفايات.

﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ﴾ مطلب يستحق المنافسة، أفق تستحق السباق، وغاية تستحق الغلاب، الذين يتنافسون في شيء من أشياء الأرض، مهما كبر وجل وارتفع وعظم، إنما يتنافسون في شيء حقير فان قريب، والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، هزيلة زهيدة، فهون من شأنها وارفع نفسك عنها، لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر،إياك أن تكون ممن قال فيهم يحيى بن معاذ: عمل لسراب، قلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب، هيهات أنت سكران بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أملك، ما أجلّك لو بادرت أجلك، ما أقواك لو خالفت هواك يا هذا، لقد أعظمت المهر وأسأت الخطبة.

الخطبة الثانية :

لله قوم نهضت بهم عز الهمم نحو الجنة، فساروا إليها مدلجين، لم ينزلوا بشيء من منازل الطريق مستريحين، ولكنهم واصلوا السير إلى غايتهم، معرضين عن هذا الخزف الخسيس، مؤثرين عليه الذهب النفيس، ساروا إليها تحدوهم أشواقهم، قاصدين إليها غير متعثرين، ولا معوجين ولا متخلفين، حتى وصلوا إلى غايتهم سالمين، ما ضرهم في الدنيا ما أصابهم، جبر الله بالجنة مصابهم.

إنها الجنة، التي دندن حولها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» قلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال: «يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله قلت: والله لا أسبقه إلى شيئ أبدا" (ت)

وهذا عمرو بن الجموح رضي الله عنه لما كان يوم أحد قال صلى الله عليه وسلم «قوموا إلى الجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين» فقام وهو أعرج، فقال: والله لأقحزن عليها في الجنة، فقاتل حتى قتل.

وفي (خ ، م) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب، ابتدروا السواري، فيركعون ركعتين ركعتين؛ حتى إن الرجل الغريب؛ ليدخل المسجد، فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما"

وعن سحيم مولى بني تميم، قال: "جلست إلى عامر بن عبدالله، وهو يصلي، فأوجز في صلاته، ثم أقبل علي فقال: أرحني بحاجتك، فإني أبادر فقلت: وما تبادر قال: ملك الموت قال: فقمت عنه، وقام إلى صلاته"

إنها الجنة: دار كرامة الرحمن، فهل من مشمر لها، إنها الجنة: فاعمل لها بقدر مقامك فيها، إنها الجنة فاعمل لها بقدر شوقك إليها، وا عجباً لها كيف نام طالبها؟ وكيف لم يسمع بمهرها خاطبها؟ وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟ وكيف قر للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها؟ وكيف قرت دونها أعين المشتاقين؟ وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين؟ وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين؟ وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة»

يا سـلعة الرحمن مـاذا كفؤهــا *** إلا أولو التقوى مع الإيمان

يا سلعة الرحمن أيـن المشــتري *** فلقد عرضت بأيسر الأثمان

يا سلعة الرحمن هل مـن خاطب *** فالمهر قبل الموت ذوو إمكان