شرط قبول العمل، وتمني العمل بعد الموت

بسم الله الرحمن الرحيم

شرط قبول العمل، وتمني العمل بعد الموت

الحمد لله عالم الخفيات، المطلع على السرائر والنيات، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السموات، أحمده سبحانه أن هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ﴿أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث رحمة للناس بشيرا ونذيرا، لتطيعوه وتتبعوه لعلكم تفلحون، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله خلقنا لعبادته، وأمرنا بطاعته، وبعث إلينا خير خلقه، وأشرف رسله محمد صلى الله عليه وسلم ، لنتبعه على شريعته، ونقيد أعمالنا وأقوالنا وأحوالنا بهديه وسنته، فالعبادة أيا كانت قولية أو فعلية، لا تكون عبادة حقيقية، ولا تتم ولا تنفع صاحبها فيثاب عليها في الدارين، إلا إذا تحقق فيها أمران لا يكفي أحدهما عن الآخر:

أحدهما: أمر عظيم، يحدد علاقة المرء بربه، ويميز أعماله، وهو طريق الخلاص : إنه الإخلاص . أخبر الله أن جميع البشر، خسرون هالكون ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾ فهؤلاء الذين ينالون الجزاء الأوفى، والأجر العظيم، في جنات النعيم. أعمالهم كلها خالصة لوجه الله تعالى، لا يريدون إلا الله بها ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً﴾ ﴿وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى﴾ .

الإخلاص لله، هو إفراده تعالى بالقصد في الطاعة دون من سواه، بأن يقصد بها وجه الله تعالى، متقربا إليه، رغبة ورهبة خوفا وطمعا، فينقيها ويصفيها من قصد ثناء الناس ومحمدتهم، أو المنزلة في قلوبهم، أو تحصيل شيء مما في أيديهم من الحطام، أو اتقاء ما قد يوجهونه للشخص من المذمة والملام ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ﴾ .

فالإخلاص لله، هو القاعدة التي تنبني عليها العبادة، وتكون حرية بالقبول والنفع والمثوبة، فهو معيار باطن الأعمال ومقياسها، الذي يميز طيبها من خبيثها، وصحيحها من فاسدها، ومقبولها من مردودها، ونافعها من ضارها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» وقال تعالى ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾.

وأما الثاني: فهو أن يكون العمل على وفق سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهو معيار ظاهر الأعمال ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهر رد». وقال صلى الله عليه وسلم : «عليكم بسنتني وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» وقال صلى الله عليه وسلم : «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى».

ولقد ذم الله تعالى الذين يعملون على غير هدي الأنبياء، وتوعدهم وعيد الأشقياء ﴿وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ (6) لاَ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ﴾.

عباد الله: الإخلاص ميزان أعمال القلوب، التي لا يطلع عليها إلا علام الغيوب، والمتابعة هي ميزان أقوال اللسان، وأعمال الجوارح الظاهرة، والناس شهداء الله في أرضه، يشهدون للإنسان أو عليه، بما يرون من أعماله، ويسمعون من أقواله، وفي الحديث : «أنتم شهداء الله في أرضه، فمن أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار».

فاتقوا الله عباد الله، ولازموا الإخلاص لربكم تبارك وتعالى، والمتابعة لنبيكم صلى الله عليه وسلم في أقوالكم وأعمالكم ونياتكم، فكل عمل أو قول مما شرع الله، لا يراد به وجه الله، فهو باطل لا ثواب عليه في الآخرة، وإن أدرك شيئا من حطام الدنيا ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً﴾ ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: لقد أخبرنا الله جل وعلا عن حال المجرم المفرط في التوبة والإنابة والعمل الصالح بأنه يقول متحسرا حين يرى العذاب ﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ ويخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت من الكافرين أو المفرطين في أمر الله، وقولهم عند ذلك ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾ ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ فكل مفرط يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرا، ليستعتب ويستدرك ما فات وهيهات، فقد كان ما كان وأتى ما هو آت، كل بحسب تفريطه. ويقول تعالى مخبرا عن قيل الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب ﴿رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾ ويقول جل وعلا عن حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند ذلك يقولون ﴿يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا ليعملوا عملا صالحا. ويقول تعالى مخبرا عنهم حين يعاينون البعث، ويقومون بين يدي الله عز وجل ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ ويخبر تعالى عنهم إذا رأوا النار، يقول قائلهم ﴿يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ وإذا ألقوا فيها ﴿يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾.

يقول العلامة ابن كثير رحمه الله : "فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة، فلا يجابون عند الاحتضار، ويوم النشور ووقت العرض على الجبار، وحين يعرضون على النار، وهم في غمرات عذاب الجحيم" أ.هـ

وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا، ليعملوا غير عملهم، كذب منهم، مقصودهم به دفع ما حل بهم، وقد علم الرب تعالى، أنه لو أعادهم إلى دار الدنيا، لكانوا كما كانوا، كما قال الله ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنكم لازلتم في دار المهلة، فاستدركوا ما فات قبل الفوات، واعملوا صالحا قبل أن يحال دونكم، وأخلصوا كل أعمالكم لله، وأوقعوها على وفق سنة عبده ورسوله ومصطفاه، فإن ذلك هو سر النجاح والفلاح بغاية الأرباح، واعلموا أن الله تعالى مطلع على سرائركم، وعالم بما أكنته ضمائركم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾.