فضل محرم وعاشوراء

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل محرم وعاشوراء

الحمد لله الذي خلق فسوى ، وأسعد وأشقى ، وحلل وحرم ، وقدر فهدى ، وقضى فأمضى ، فلا ناقض لما أحكم وأبرم ، ووهب فأغنى ، وأعطى فأقنى ، وأتحف وأكرم ، ومنّ وتطوّل ، وأنعم وتفضّل ، ومن إنعامه شهر المحرم ، جعله موسماً لاجتهاد العبّاد ، ومغنماً لاكتساب الزهّاد ، ومعلماً لقبول توبات العباد ، فالعمل فيه أجره معظم ، فطوبى لمن كان فيه من القانتين ، وفوزاً لمن لمن أقلع فيه فكان من التائبين ، لأنه يوم تاب الله فيه على قوم ويتوب فيه على آخرين ، فسبحانه ما أوسع عفوه ، وأسبغ فضله، نحمده على ما أولى من العطايا ، ونشكره على ما أسبغ من الهدايا ،التي منها دخول الأوقات الفاضلة على البرايا ،ليفيض من بركاتها على من يشاء ويعلم ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد المعبود ، الواجد الماجد ذو الكرم والجود ، الخالق الرازق المدبر لهذا الوجود ، حكمته بالغة تبهر العقول فيما دبّر وأحكم ، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده الذي أوضح الدلالة ، ورسوله الذي بلغ الرسالة، ونبيه المنقذ من الضلالة ، صلى الله عليه وعلى آله ذوي الشرف الأنيق ، وعلى أصحابه أولى الصدق والتصديق ، وعلى التابعين لهم بإحسان من كل فريق ، ما دارت مواسم الخيرات التي ببركتها نفوز وننعم ، وسلّم تسليماً ، أما بعد :

فلله سبحانه أن يختص بفضله من يشاء من عباده، وله سبحانه أن يفضل بعض الأزمان على بعض ، وأن يخصها بمزيد عناية وكرم، ومن ذلك ما اختص به شهر محرم، فهو شهر عظيم مبارك، وهو أول شهور السنّة ، وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ وقوله تعالى ﴿فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها .

فعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى ﴿فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراماً وعظّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم.

ومن فضائل شهر المحرم ، أنه يستحب الإكثار من صيام النافلة فيه ففي الحديث «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ» رواه مسلم، وأفضل أيامه اليوم العاشر، فقد صامه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، ففي الصحيحين وغيرهما عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: «مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى [شكراً لله تعالى]، قَالَ: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» ونحن نصومه تعظيماً له، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ».

وصيام عاشوراء كان معروفاً في أيّام الجاهلية قبل البعثة النبويّة، وكان أهل الجاهلية يصومونه، كما ثبت عن عائشة رضي الله عنها. وقد كان صوم يوم عاشوراء واجباً في أول الإسلام ، ثم نسخ الوجوب وبقي الاستحباب، يقول ابن مسعود رضي الله عنه كما في صحيح مسلم «لما فُرض رمضان تُرك عاشوراء» أما عن فضل صيام يوم عاشوراء وعناية صلى الله عليه وسلم به فيخبرنا ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ». رواه البخاري.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» رواه مسلم، وهذا من فضل الله علينا أن أعطانا بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة والله ذو الفضل العظيم. ولكن..صيام عاشوراء ماذا يكفّر؟ قال أهل العلم: إنه يكفر الذنوب الصغائر فقط، أما الكبائر فلا تكفرها إلا التوبة

واستمعوا إلى الإمام ابن القيم رحمه الله وهو يحذر من يتصور أن صيام عرفة وعاشوراء كاف في النجاة والمغفرة، يقول رحمه الله: "لَمْ يَدْرِ هَذَا الْمُغْتَرُّ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ, وَهِيَ إنَّمَا تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُمَا إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ, فَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ, وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ لَا يَقْوَيَانِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ إلَّا مَعَ انْضِمَامِ تَرْكِ الْكَبَائِرِ إلَيْهَا, فَيَقْوَى مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ. وَمِنْ الْمَغْرُورِينَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ طَاعَاتِهِ أَكْثَرُ مِنْ مَعَاصِيهِ, لِأَنَّهُ لَا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَلَا يَتَفَقَّدُ ذُنُوبَهُ, وَإِذَا عَمِلَ طَاعَةً حَفِظَهَا وَاعْتَدَّ بِهَا, كَاَلَّذِي يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بِلِسَانِهِ أَوْ يُسَبِّحُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ, ثُمَّ يَغْتَابُ الْمُسْلِمِينَ وَيُمَزِّقُ أَعْرَاضَهُمْ, وَيَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ طُولَ نَهَارِهِ, فَهَذَا أَبَدًا يَتَأَمَّلُ فِي فَضَائِلِ التَّسْبِيحَاتِ وَالتَّهْلِيلَاتِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى مَا وَرَدَ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُغْتَابِينَ وَالْكَذَّابِينَ وَالنَّمَّامِينَ, إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ, وَذَلِكَ مَحْضُ غُرُورٍ" انتهى كلامه.

الخطبة الثانية :

لقد يسر الله لعباده سبل الخير، وفتح لهم أبواب الرحمة، وأنعم عليهم بمواسم البر والخيرات واكتساب الأجر والمثوبة، ورتب الأجر الجزيل على العمل اليسير تكرماً منه وفضلاً ومنَّة على عباده المؤمنين؛ ليستدركوا ما فاتهم ويكفروا عن سيئاتهم، ومن مواسم الخير والمغفرة "يوم عاشوراء" ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما هاجر إلى المدينة صامه وأمر الناس بصيامه، فلما فرض شهر رمضان قال: «فمن شاء صامه، ومن شاء تركه» رواه البخاري ومسلم.

والنبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود يصومون عاشوراء، وقالوا إنّ موسى صامه، وإنه اليوم الذي نجوا فيه من فرعون وغرق فرعون، فصامه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، وقال: «نحن أحق بموسى منهم» (رواه مسلم).

قال ابن حجر: "وعلى كل فلم يصمه النبي صلى الله عليه وسلم اقتداء بهم، فإنه كان يصومه قبل ذلك، وكان ذلك في الوقت الذي يجب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه"

ولما كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم حرصه على مخالفة الكفار في عباداتهم وأعمالهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام اليوم التاسع مع العاشر، فعن ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ» رواه مسلم.

وهل يجوز إفراد عاشوراء بالصيام حتى وإن كان يوم جمعة أو سبت، يقول أهل العلم: إنه لا مانع منه، وإن كان الأولى صيام يوم قبله أو يوم بعده، كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية، وبه أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء.

وهنا أمر يكثر فيه السؤال، وهو ما العمل إذا اشتبه أول الشهر؟ فلم يُدر أي يوم هو العاشر أو التاسع، فيقال ما ذكره الإمام أَحْمَدُ: فَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَوَّلُ الشَّهْرِ صَامَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَتَيَقَّنَ صَوْمَ التَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ. فمن لم يعرف دخول هلال محرّم وأراد الاحتياط للعاشر بنى على إكمال ذي الحجة ثلاثين ـ كما هي القاعدة ـ ثم صام التاسع والعاشر.

قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وآخرون : يستحب صوم التاسع والعاشر جميعا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام العاشر , ونوى صيام التاسع .وعلى هذا فصيام عاشوراء على مراتب أدناها أن يصام وحده وفوقه أن يصام التاسع معه وكلّما كثر الصّيام في محرّم كان أفضل وأطيب .

فاحتسبوا أيها المؤمنون، وارغبوا في صيام عاشوراء رجاء أن تشملكم رحمة الله ومغفرته، وجددوا لله تعالى التوبة في كل حين.