موعظة لمن جاز الأربعين

بسم الله الرحمن الرحيم

موعظة لمن جاز الأربعين

عباد الله: يقول ربنا جل وعلا: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ﴾ .

يقول العلامة السعدي رحمه الله: "يخبر تعالى عن سعة علمه، وعظيم اقتداره، وكمال حكمته، حيث ابتدأ خلق الآدميين من ضعف، وهو الأطوار الأُول من خلقه، إلى أن ولد وهو في سن الطفولة، وهو إذ ذاك في غاية الضعف، وعدم القوة والقدرة، ثم ما زال الله يزيد في قوته شيئا فشيئا، حتى بلغ سن الشباب واستوت قوته، وكملت قواه الظاهرة والباطنة، ثم انتقل من هذا الطور، ورجع إلى الضعف والشيبة والهرم، ومن حكمة الله أن يري العبد ضعفه، وأن قوته محفوفة بضعفين، وأنه ليس له من نفسه إلا النقص، ولولا تقوية الله له، لما وصل إلى قوة وقدرة، ولو استمرت قوته في الزيادة، لطغى وبغى وعتا "أ.هـ

فيا أيها الشيخ الكبير يا من بلغت الستين اجعل حديث الذي لا ينطق عن الهوى نبيك صلى الله عليه وسلم نصب عينيك، وفكر فيه كلما أصبحت وأمسيت حيث يقول كما في (ت، جه) من حديث أبي هريرة «أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك» إذن أنت على مشارف الدار الآخرة، وعلى وشك فراق الدار الفانية، فشمسك قد تضيفت للغروب، وستؤذن بليلة صبحها يوم البعث والنشور، فما حالك وما سيرتك، وما تفكيرك وما تدبيرك، انظر إلى حالك نظرة تأمل وتدبر واتعاظ، بالأمس كنت وليدا، وشابا قويا يافعا، تطلعت إلى الحياة بهمة الشباب وتفكيرهم، وأملت فيها آمالا عريضة، واليوم، انقلبت حالك، فالقوة دب إليها الضعف، والرأس بان به الشيب، والآمال العريضة هجم عليها اليأس، وأصبح النظر إلى الدنيا كسيرا، والهمة فيها ضعيفة، والرغبة بها قليلة، وأحسست بغربتك في الدنيا، فحاولت أن تسلي نفسك بالتشبث بهذه الحياة، والتعلق بها وحبها، يقول صلى الله عليه وسلم كما عند (م) من حديث أنس: «يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان: الحرص على المال والحرص على العمر» وفي لفظ «قلب الشيخ شاب على اثنتين: حب العيش والمال» وهذا ما يقع فيه أكثر الشيوخ، ممن قل علمه وكثر جهله، وضعف عقله وزاد سفهه، كلما ازداد قربا من الآخرة، ازداد حبا وتعلقا بالدنيا، فقاده هذا إلى الوقوع فيما يغضب الله عز وجل، ويوجب سخطه، ويؤذن بعقابه، ويؤدي إلى سوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية.

أيها الشيخ الكبير: انتبه لنفسك فيما بقي من عمرك، ترفع عن أعمال السفهاء، وصن عقلك عن تصرف البلهاء، واعمر أوقاتك بطاعة رب الأرض والسماء، إن خارت منك قوى بدنك، فلم تخر منك قوى عقلك وذهنك، أسد إلى مجتمعك خبرتك في هذه الحياة، وأفد شباب الأمة بما مر عليك في زمانك من لأواء وسراء، ومحن وفتن، فالمجتمع عامة بحاجة إلى خبرتك وتجربتك، والشباب خاصة بحاجة إلى توجيهك وإرشادك، فلهم عليك ذلك، ولك عليهم توقيرك واحترامك. فإذا اجتمعت حكمة الشيوخ مع قوة الشباب، حصل الخير للمجتمع، واستقامت أموره، وحسنت أحواله، ومن أجل هذا حرص الأعداء، على إيجاد التنافر بين الشباب والشيوخ، وذلك بصرف الشباب عن طاعة الله، وإشغاله بالفتن والمنكرات، وغرس حب الحياة والتعلق بها وجمع حطامها في قلوب الشيوخ.

واعلم أيها الشيخ الكبير: انه إن كان يقبح من الشاب فعل السوء وارتكاب المنكر، فإنه في حقك أشد قبحا، وأعظم إثما، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما عند (م) من حديث أبي هريرة: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر».

فالله الله في نفسك أيها الشيخ الكبير: تدارك نفسك قبل فوات الأوان، أقبل على دارك الآخرة، وازهد في دارك الفانية، وقدم ما يكون به نجاتك، قبل أن تقول: ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه.

ذهب الشباب فما له من عـودة *** وأتى المشيب فأين منه المهــرب

دع عنك ما قد فات في زمن الصبا *** واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب

واخش مناقشة الحساب فإنــه *** لا بد يحصى ما جنيت ويكــتب

لم ينسه الملكان حين نسيتـــه *** بل أثبتاه وأنت لاه تلعــــب

والروح فيك وديعة أُودِعتــها *** ستردها بالرغم منك وتســلب

وغرور دنياك التي تسعى لهــا *** دار حقيقتها متاع يذهـــــب

وجميع ما حصلته وجمعتــــه *** حقا يقينا بعد موتك ينهــــب

تبا لدار لا يدوم نعيمهــــا *** ومشيــــدها عما قليل يـخرب

اللهم بارك لنا في أعمارنا وأعمالنا، وأولادنا وأموالنا، اللهم اجعل أعمالنا في رضاك، وثبتنا على دينك إلى أن نلقاك، إنك ولي ذلك والقادر عليه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: يقول ابن الجوزي : "لقد خلقنا نتقلب في ستة أسفار، إلى أن يستقر بنا المنزل، السفر الأول، سفر السلالة من الطين، والثاني: سفر النطفة من الصلب، والثالث: من البطون إلى الدنيا، والرابع: من الدنيا إلى القبور، والخامس: من القبور إلى العرض، والسادس إلى منزل الإقامة، فقد قطعنا نصف الطريق، وما بعد أصعب "أ.هـ

فالسنون مراحل، والشهور فراسخ، والأيام أميال، والأنفاس خطوات، والطاعات رؤوس أموال، والمعاصي قطاع الطريق، والربح الجنة، والخسران النار.

فيا من أُرخي لهم في الطَول، وأمهل لهم بمد الأجل، أُخلوا بأنفسكم وعاتبوها، وخذوا على يدها وحاسبوها، لعلها تأخذ عدتها قبل أن تستوفي مدتها، واشكروا نعمة من ستركم على الذنوب، واعرفوا فضله فقد أعطاكم كل مطلوب، يا لله ما أعم جوده لجميع خلقه، وما أكثر تقصيرهم في حقه، عم إحسانه الآدمي والبهائم، والمستيقظ والنائم، والجاهل والعالم، والمتقي والظالم.

عبد الله يا من بلغت الأربعين، يقول الله عز وجل: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾.

طلب هذا الداعي من الله ثلاثة أشياء: الأول: أن يوفقه للشكر على النعمة، والثاني: أن يوفقه للإِتيان بالطاعة المرضية عند الله، والثالث: أن يصلح له في ذريته، وهذه كمال السعادة البشرية ﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ أي إِني يا رب تبت إليك من جميع الذنوب، وإِني من المستمسكين بالإِسلام .

قال ابن كثير: في الآية إِرشادٌ لمن بلغ الأربعين أن يجدِّد التوبة والإِنابة إلى الله عز وجل، ويعزم عليها ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾ أي أولئك الموصوفون بما ذكر، نتقبل منهم طاعاتهم، ونجازيهم على أعمالهم بأفضلها ﴿وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الجَنَّةِ﴾ أي ونصفح عن خطيئاتهم وزلاتهم، في جملة أصحاب الجنة، الذين نكرمهم بالعفو والغفران ﴿وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ أي بذلك الوعد الصادق الذي وعدناهم به على ألسنة الرسل، بأن نتقبل من محسنهم، ونتجاوز عن مسيئهم أ. هـ

عبد الله: مر الزمان وعظ الألباب، ويكفي في الإنذار موت الأصحاب، كم ترى في التراب من أتراب؟ ويحك ضياء الدنيا ضباب، وشراب الهوى سراب، أترضى أن يقال قد خاب؟ أما لهذا عندك جواب؟ فالتوبة التوبة، قبل أن تصل النوبة، والإنابة الإنابة، قبل أن يغلق باب الإجابة، والإفاقة الإفاقة، فيا قرب وقت الفاقة.