وانقضى رمضان

بسم الله الرحمن الرحيم

وانقضى رمضان

ما أسرع مرور الليالي والأيام، وما أعجلَ انصرام الشهور والأعوام، وهكذا حال الدنيا، سريعةُ الزوال، قريبةُ الاضمحلال، لا يدوم لها حال، ولا يطمئنّ لها بال، وهذه سُنة الله في خلقه، أدوارٌ وأطوارٌ تجري بأجل مسمى و ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ .

عباد الله: عن قريب نودع رمضان، وكأنّه طيف خيال، ما أعجلَ ما انقضى، وما أسرعَ ما انتهى، انطوت صحيفته ، ذهب منتقلاً، وولى مرتحلاً، ذهب بأعمالكم شاهدًا بما أُودع فيه، فيا تُرى هل رحل حامدًا الصنيع، أو ذامًا التضييع؟ فلله الحمد على ما قضى وأبرم، وله الشكر على ما أعطى وأنعم.

مضَت ليالٍ غرٌّ، بفضائلها ونفحات ربّها، وأوشك باقيها على الرّحيل، وكأنّها ضربُ خيال، لقد قطعت بنا مرحلةً من حياتنا لن تعود. هذا هو شهرُكم، وهذه هي نهايته، كم من مستقبلٍ له لم يستكمِله، وكم من مؤمِّلٍ أن يعودَ إليه لن يدرِكه.

عباد الله : الأيّام تُطوى، والأعمار تفنَى، فاجعَل لك في بقيّة الليالي مدَّخرًا، وابكِ على خطيئتِك، واندَم على تفريطِك، واغتنِم آخرَ ساعاتِ شهرك بالدّعاء، واجتهد في الطاعة قبل انقضائه، فساعاته تذهب، وأوقاته تُنهب، وزمانه يُطلب، ويوشك الضيف أن يرتحل، وشهر الصوم أن ينتقل، وسلِ الكريمَ فخزائِنه ملأى، ويداه سحَّاء الليل والنّهار، وإن استطعتَ أن لا يسبقَك إلى الله في بقيّة شهرك أحدٌ فافعل، وافتَح صفحةً مشرقة مع مولاك، واسدِل الستارَ على ماضٍ نسيتَه وأحصاه الله عليك، فالرشيد من وقف مع نفسه وقفةَ حساب وعِتاب، يصحّح مسيرتَها، ويتدارك زلّتها.

يقول ابن حبّان رحمه الله: "أفضل ذوي العقولِ منزلةً، أدومُهم لنفسه محاسبة، والسعيدُ من استودع صالحًا من عملِه، والشقيّ من شهِدت عليه جوارحه بقبيح زَلَله".

لقد رحل شهركم بأعمالكم، وخُتم فيه على أفعالكم وأقوالكم، فمن كان مسيئاً فليبادر بالتوبة والحسنى قبل غلق الباب، وطيِّ الكتاب، ومن كان في شهره إلى ربه منيباً، وفي عمله مصيبا، فليُحكم البناءَ ، وليشكر المنعمَ على النعماء، ولا يكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوَّة أنكاثاً.

أيها المسلمون: ذهب الشهر وانهدم، وفاز من بحبل الله اعتصم، وخاف من زلّة القدم، واغتنم شهر رمضان خير مغتنم، وشقي الغافل العاصي بين الذل والسقم، والأمن والندم، ويا ويله يوم تحل على أهل المخالفة الآفات، يوم تنقطع أفئدة أهل التفريط بالزفرات، يوم يُحشر أهل المعاصي والدموع على الوجنات، يقول ربنا في الحديث القدسي: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» (م)

فيا من فرّطتم في شهر رمضان القائم، هل أنتم على يقين من العيش إلى رمضان قادم؟! فقوموا بحق شهركم، واتقوا الله في سرِّكم وجهركم، واعلموا أن عليكم ملكين يصحبانكم ، ويكتبان كل أعمالكم، فلا تهتكوا أستاركم، عند من لا تخفى عليه أسراركم.

عباد الله: إن أيام رمضان يجب أن تُعظَّم وتصان، وتُكرَّم ولا تُهان، فهل حبستم حواسكم فيها عن فضول الكلام والنظر؟! وكففتم جوارحكم عن اللهو والأشر؟! واستعددثم من الزاد ما يصلح للسفر؟! أم أنتم ممن تعرض في هذا الشهر للمساخط، وقارف المظالم والمساقط، وتاه بالدنيا وكأنه خُلق فيها لها، وسلك بنفسه طريق الهوى فأهلكها.

أيها المسلمون: هنيئاً لِمن فاز بجائزة ربه، ويا ويح من عاد بالخيبة والندامة، فكأنكم بالأعمار قد انقضت، وبالدنيا قد مضت، فاستعدّوا بذخائر الأعمال، لما تلقَون من عظيم الأهوال، فقد آن وقتُ التحويل، إلى الوقوف بين يدي الملك الجليل، فأنفاسكم معدودة، وملك الموت قاصدٌ إليكم، يقطع آثاركم، ويخرّب دياركم، فرحم الله عبداً نظر لنفسه، وقدَّم لغده من أمسه، فترحَّلْ من مواطن غيِّك وهلاكك، إلى مواطن رشدِك وسدادك، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين، ولا تستوحش من الحقّ لقلة السالكين.

الخطبة الثانية :

لا قيمة لطاعة تؤَدَّى دون أن يكون لها أثر من تقوى أو خشية، فأين أثر رمضان، إذا هُجر القرآن، وتُركت الصلاة مع الجماعة، وانتُهكت المحرمات؟! أين أثر الطاعة إذا أُكل الربا، وأُخذت أموال الناس بالباطل؟! أين أثر الصيام إذا أُعرض عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أين أثر الصيام، إذا نظرت إلى الحرام العينان ، ومشت إلى المعصية القدمان، واستمعت إلى الباطل الأذنان.

يا عبد الله: جدّ القوم وأنت قاعد، وقربوا وأنت متباعد، وقاموا وأنت راقد، وتذكروا وأنت شارد، إن قام العُبادُ لم تُرَ بينهم، وإن عُدَّ الصالحون فلست معهم، ترجو النجاة ببضاعة مزجاة، فلا صلاة ولا مناجاة، ولا توبة ولا مصافاة، لقد باشر الصالحون ليالي رمضان بصفاح وجوههم، وقيام أبدانهم، خالف خوف الله بينهم وبين السُهاد، وأطار من أعينهم الرقاد، عيونهم من رهبة الله تدمع، قلوبهم من خوفه تلين وتخشع، يعبدونه في ظلمة الليل والناس ضُجَّع، قومٌ أبرار، ليسوا بأثمة ولا فُجار، فيا من قضيت ليلك في معصية الخالق، وأضعت ليالي رمضان الشريفة في المحرمات والبوائق، يا لها من خسارة لا تشبهها خسارة، أن ترى أهل الإيمان واليقين، وركائب التائبين، وقوافل المستغفرين، قد حظوا في ساعات الليل بالرضوان، وقد رُميت بالطرد والإبعاد والحرمان، فاستدرك من رمضان ذاهباً، ودع اللهو جانباً، والحق بالقافلة، وتقلب في منازل العبودية بين فرضٍ ونافلة، واجعل الحياة بطاعة ربك حافلة، وحافظ على التراويح والقيام، فيما تبقى من الأيام، وأحسن الختام ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» (متفق عليه)

أحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ، والمغبون من انصرَف عن طاعةِ الله، والمحروم من حُرِم رحمةَ الله، وما أعرَض معرضٌ عن طاعتِه، إلا عثَر في ثوب غفلتِه، والهلاك في الإصرارِ على الخطايا، فإيّاك والمعاصيَ بعد شهرِ الغفران، فالعاصي في شقاءٍ، والخطيئة تذلّ الإنسانَ، وتخرِس اللّسان.

يقول أبو سليمان التّيميّ: "إنّ الرجلَ يصيب الذنبَ في السرِّ فيصبح وعليه مذلّته"

أيّها المسلمون: إنّ مِن مسالك الإحسان في ختام شهركم إخراجَ زكاة الفطر، ففيها أُلفة القلوب، وعطف الغنيّ على أخيه الفقير، فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم طهرةً للصّائم، وطْعمة للمساكين، ومقدارها صاع من طعامٍ، من غالب قوتِ البلد، ووقتُ إخراجها الفاضلُ يوم العيد قبلَ الصلاة، ويجوز تقديمها قبل ذلك بيومٍ أو يومين، فأخرِجوها طيّبةً بها نفوسكم، وأكثروا من التكبير ليلةَ العيد إلى صلاة العيد تعظيمًا لله وشكرًا له على التّمام، قال عز وجل: ﴿وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ .

واشكروا ربَّكم على تمامِ فرضكم، وليكن عيدُكم مقرونًا بتفريج كربةٍ وملاطفةٍ ليتيم، وابتهجوا بعيدكم بالبقاء على العهدِ وإتباع الحسنةِ بالحسنة، وإيّاكم والمجاهرةَ في الأعياد بقبيح الفعال والآثام.