الأمر بلزوم الجماعة

بسم الله الرحمن الرحيم

الأمر بلزوم الجماعة

عباد الله: جاء الإسلام ليجمع القلوب، ويوحّد الصفوف، ويلمّ الفرقة، جاء الإسلام ليبني الجسد الواحد، والبنيان المرصوص، وليقطع أسباب الاختلاف، وطرق التفرق والتنازع، فتجتمع القلوب قبل الأبدان، في بناء متماسك، ويد واحدة، وجسد واحد، في مجتمع تسوده المحبة والإخاء، والإيثار والصفاء والنقاء.

وإن السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين أصل من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة، قلّ أن يخلو كتاب فيها من تقريره وشرحه وبيانه، وما ذلك إلا لبالغ أهميته وعظيم شأنه، إذ بالسمع والطاعة تنتظم مصالح الدين والدنيا معا، وبالتعدي عليهم قولاً أو فعلاً فساد الدين والدنيا.

وقد عُلم بالضرورة من دين الإِسلام أنه لا دين إلاَّ بجماعة، ولا جماعة إلاَّ بإمامة، ولا إمامة إلاَّ بسمع وطاعة.

عباد الله : أهل الجاهلية يَرونَ أنّ مخالفةَ وَليِّ الأمرِ وعصيانَه ، فضيلةٌ تُحمَد، وشَرَفٌ يُقصَد، ومَنقَبةٌ تطلَب، وأنّ السَّمعَ والطاعة مهانةٌ، يجِب الترفُّعُ عنها، وضَعَة تلزَم الأنَفةُ منها، ومذمَّةٌ تتأكَّد البراءةُ منها، ويتعيَّن التجافي عنها.

فخالفهم رسول الهدَى صلوات الله وسلامُه عليه، فأمَرَ عليه الصلاة والسلام بالاجتماعِ والاعتصام بحبلِ الله وأوجب صلى الله عليه وسلم السّمعَ والطّاعةَ لوليِّ الأمرِ المسلِم والنّصيحةَ له، وحرَّم مخالفتَه إلاَّ أن يأمُر بمعصية .

وحذر صلى الله عليه وسلم من الخروج عن الطاعة، ومفارقة الجماعة، آمرا بالصبر على جور الولاة، وحث على النصح لهم وبالغ في ذلك فقال كما عند البخاري «اسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله أمركم، وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف» وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بإقامة الأمير حتى في الجماعة القليلة، والمدة القصيرة، ويحث على طاعته، مبالغة في طلب الاجتماع، وحرصا على عدم الفرقة، ففي الترمذي قال صلى الله عليه وسلم «وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن؛ السمع والطاعة والجهاد والهجر والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» وفي خطبة عمر رضي الله عنه: عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الإثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة، فليلزم الجماعة.

وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تنص على وجوب طاعة الأمراء، في غير معصية، وإن كانوا فجرة، ما داموا على الإسلام، لم يخرجوا إلى الكفر الصريح، كما في مسلم أن رسول الله قال «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني» قالابن عباس رضي الله عنهما نزل قول الله تعالى ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ في الأمراء.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون في الأمة أئمة يهدون بغير هديه، ويستنون بغير سنته، وأخبر أن فيهم رجالا قلوبهم قلوب الشياطين، ومع ذلك أمر بالسمع والطاعة للأمير، وإن ضرب الظهر، وأخذ المال، وفي ذلك بيان وجوب طاعة السلطان، في غير معصية، سواء كان عادلا أو ظالما، برا أو فاجرا، وهذه حماية منه صلى الله عليه وسلم للأمة من التفرق، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الذي أخرجَه البخاريّ ومسلم عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَن كرِه من أميرِه شيئًا فليَصبِر، فإنّ مَن خرجَ من السّلطان شِبرًا مات مِيتةً جاهليّة» وفي الصّحيحين أيضًا عن جُنادة بن أبي أميّة أنّه قال: دَخلنا على عُبادةَ بنِ الصامت وهو مَريض وقلنا: أصلحك الله، حدِّث بحديثٍ ينفعُك الله به سمعتَه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال رضي الله عنه: دَعَانا النبيّ صلى الله عليه وسلم فبايَعَنا، فكانَ فيما أخَذَ عَلينا أن بايَعنا على السّمعِ والطّاعة في منشَطِنا ومَكرهنا وعُسرِنا ويُسرِنا وأَثَرةٍ علينا، وأن لا نُنازعَ الأمرَ أهلَه إلاَّ أن يكونَ كُفرًا بَواحًا عندكم مِنَ الله فيه برهان

ولا ريبَ أنَّ في الأخذِ بهذا الهدي النبويِّ الحكيم، انتظامَ مصالح الدين والدنيا، بسدِّ أبوابِ الفِتنة، وتوجيهِ الطاقات، وصَرف الجهود، في كلِّ ما تُجتَلَب بهِ المنافع، وتُستَدفَع به المضارّ، ويُصان به كيانُ الأمّة، وتُحمَى به الحَوزَة، ويُكبَت به الأعداء، ويَعمُّ به الأمن، ويَكثُر به الخير والرّخاء.

الخطبة الثانية:

أيّها المسلمون:أقدارٌ مورودَة، وأقضيةٌ مسطورَة، لله في طياتها الفَرَج القريب، وهو السّميع المجيب، لا يقابَل أمرُه إلا بالرّضا، والصّبرِ على ما قضى، ولا يقابَل البلاء الجسيمُ، إلا بالإيمان والتّسليم، والله بعبادِه لطيف، وفضلُه بهم مطيف.

أيّها المسلمون: إنَّ أقربَ المسالك، الحاميةِ من المهالك، ودارئةِ الأخطار، ودافعة الأضرار، التي تمتدّ إليها بصيرةُ الفطِن، لزوم جماعةِ المسلمين وإمامِهم، والصدور عن أئمّتهم وعلمائهم، فاحذَروا سلَّ الأيدي عن رِبقة الطَاعة، ومخالفةَ الجماعة، والمستعينُ بالله موفَّق، والتمكين لأوليائه محقق.

وإنّ لزومَ جماعة المسلمين، والانضواءَ تحت ظلّهم، والنصحَ لهم، ورعايةَ حقوقهم، وكفَّ الأذى عنهم، نجاةٌ من شياطين الإنس والجنّ، وطريقٌ مأمونُ العاقبة، ونهج قويم، جاءت الآياتُ والأحاديث مأكِّدةً وملزِمة لذلك وداعيةً إلى الحفاظ على جماعة المسلمين، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن خلع يدًا من طاعةٍ لقِي الله يومَ القيامةِ لا حجّةَ له، ومن ماتَ وليس في عُنقه بيعة ماتَ مِيتة جاهلية» رواه مسلم، وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة لا تَسْأل عنهم: رجل فارَق الجماعة وعصى إمامَه ومات عاصياً، وعبدٌ أبق فمات، وامرأة غابَ عنها زوجُها يكفيها المؤنة فتبرّجت من بعدِه» رواه أحمد

عباد الله : إن من نعمة الله علينا في بلاد التوحيد والسنة، ومن آثار هذه الدعوة السلفية المباركة، ما رآه القاصي والداني في جنازة خادم الحرمين الشريفين، فلقد كانت جنازة عادية، شأنها شأن جنازات آحاد المسلمين ، فلم نر موكبٌ تتقدمهُ الخيولُ ، وطلقاتُ المدافعِ ، ونثر الورود ، وأصوات الموسيقى ، ولم تزين جنازته أو تميز، بل لفت بعباءة كما يفعل بعامة الناس،كانت الصلاةُ في الجامعِ الكبيرِ الذي يُصلى فيه على جنائزِ العامة ، حُملتِ الجنازةُ على الأكتافِ ، فلم توضع فوقها الأعلام، حُملت إلى المقبرةِ من غيرِ مراسيم تشيِّعٍ كما يُفعلُ في باقي الدولِ ، ووضع في قبره ووضع عليه اللبن ثم أهيل عليه التراب، لم يرفع قبره ولم يجصص، ولم يوضع عليه الحرس، ثم انتقلت البيعة إلى أخيه في سلاسة ويسر، بايع العلماء وأهل الحل والعقد، وبقية الناس ، فأغاظ ذلك الأعداء، وأثار الحدث مكنون الحاقدين ، كانوا ينتظرون المظاهرات والاضطرابات، والفوضى والنزاعات، وأراد الله غير مايريدون، وقضى بما لا يشتهون، فاللهم لك الحمد على نعمة التوحيد والسنة.