العلم الشرعي

بسم الله الرحمن الرحيم

العلم الشرعي

عباد الله: هل تعلمون خيرا من شاب في هذا العصر، هجر الدنيا، وزهد في ملذاتها، ونأى بعيدا عن شهواتها، وانعزل عن فتنها التي تستفز الحليم، وانقطع عن إغواءاتها التي تستخف بالرزين، وترك الناس على دنياهم يتكالبون، وهجر من أهله وإخوانه تنافسهم على القصور والأموال، فإن مر على اللغو مر مر الكرام، وإن تعرض له الجاهلون أعرض وقال: سلام، وهو مع ذلك كله شاب في عنفوان الشباب، أمامه مستقبل عريض، وعليه مسئولية بناء جديد، وينظر إلى الأفق البعيد، نظرة ملؤها الآمال والأحلام، تفور فيه غرائز الشهوات، ويجيش فؤاده بالعواطف، وتتفجر دماؤه حماسا، ثم هو هو ذلك الذي تجاوز هذا كله، وجعله وراءه ظهريا، وأقبل على العلم على مرارته، وانكب على الكتاب على ملالته، قطع الأيام في التحصيل، وسهر الليالي على الدرس والترتيل، يقرأ حتى تزوغ عينه، ويكتب حتى تكل يده، ويدرس حتى يكد ذهنه. أخبروني من أفضل من هذا؟

عباد الله: إن طلب العلم من أعظم العبادات، وثوابه يفضل ثواب أكثر القربات، وسبل تحصيله سبل الجنات، وتظله الملائكة فيها بأجنحتها خاضعات، وتنزل على مجالسه السكينة والرحمات. فرضي الله عن سهر الليالي في الجد والتحصيل، وأنعم بتلك الخطى في طلب علوم التنزيل، وأعظم بالزاهدين إلا في ميراث النبوة، الهاجرين المضاجع والأوطان، الآخذين الكتاب بقوة، فإن عجب أحد من هذا الثناء القليل، في طالب العلم الجليل، فهل دبت على وجه الأرض خطى أشرف من خطى طالب العلم؟ وهل حوت الأسحار والأبكار أجد منه في طلبه؟ وهل مر على الأسماع ألذ من دندنة المتحفظين، وزجل القارئين؟ وهل امتلأت القلوب هيبة لمثل منكب على كتاب؟ وهل انشرحت الصدور إلا في مجالس الذكر؟ وهل انعقدت الآمال جميعها إلا على حلق التعليم؟ وهل نزلت السكينة والرحمة على مثل الدارسين لكتاب الله العظيم؟ وهل تضاءلت عروش الملوك إلا عند منابر العلماء؟ وهل عمرت المساجد في غير أوقات الصلوات بمثل مجالس التعليم؟

 عباد الله: هلموا إلى العلم الموروث عن نبيكم صلى الله عليه وسلم ، من الكتاب والسنة، فتعلموه واعملوا به، وعلموه أهليكم وذويكم، وادعوا كل من ذهبتم إليه أو جاء إليكم، فإن حاجتكم إليه شديدة، وضرورتكم إليه عظيمة، فأنتم أحوج إليه منكم إلى الشراب والغذاء، والدواء والهواء والضياء، فإن به حياة القلوب، وانشراح الصدور، وزكاة النفوس، ونور البصائر، وبه النجاة من فتن الدنيا، وفي البرزخ، ويوم تبلى السرائر، إنه نور يُهتدى به في الظلمات، وسبب يتوصل به إلى أنواع الخيرات، وجليل القربات، وعون للعبد من ربه على لزوم الطاعات، وترك السيئات، وهجر المحرمات والمشتبهات، به يعرف حق الله تعالى على عباده، وما للمرء عند ربه يوم معاده، وبه تعرف الأحكام، ويفرق بين الحلال والحرام، وتوصل الأرحام، وهو الباعث على الإخلاص في العمل والإحسان، وهو لكل عمل صالح وكلم طيب أصل وحافظ لاستقامة البنيان، وأفضل مكتسب، وأشرف منتسب، وأنفس ذخيرة تقتنى، وأطيب ثمرة تجتنى، ووسيلة لكل الفضائل، وسبب يلحق به المتأخرون بالسابقين الأوائل.

عباد الله: تعلموا هذا العلم، وأخلصوا لله في طلبه والعمل به، والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه، تنالوا بركته، وتجنوا ثمرته، تكونوا لربكم متقين، ولنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وارثين، وبأشرف الحظوظ آخذين، ولطريق الجنة سالكين، فإن من كان كذلك رفعه الله درجات، في الدنيا ويوم الدين، فجعله من الأئمة الهداة المهديين، وألحقه بمن سلف من الصالحين، وجعل له لسان صدق في الآخرين، وإنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقه في الدين، فمن علم الله في قلبه خيرا أسمعه، ومن اتقى الله في علمه وعمله كان معه، فإنه سبحانه يسمع من يشاء، ويهدي من يشاء، ويؤت الحكمة من يشاء ﴿وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾.

عباد الله: إن هذا العلم نور يقذفه الله في قلب العبد إذا رغب تحصيله، وسلك سبيله، وأخلص لله قصده، واستفرغ في طلبه وقته وجهده، فإذا استقر ذلكم النور في القلب، صلح به وانشرح به الصدر، واطمأنت به النفس، فطابت الأقوال، وصلحت الأعمال، وحسنت السريرة، وجملت السيرة، فصار صاحبه إمام هدى، يقتدى به إلى آخر الدهر، ولا يعلم إلا الله ما له عنده من كريم الذخر، وعظيم الأجر، وإنما ينتفع به من طلبه لله فعمل به، وبذله في عبادة الله، فذاك الذي تراه كلما أصاب منه بابا، ازداد لله تواضعا وله خشية، ومنه خوفا وله رجاء، وإليه رغبة وبه أنسا ومحبة، ولنبيه صلى الله عليه وسلم إيمانا وتصديقا، وتعزيزا وتوقيرا، ولعباد الله تواضعا ونصحا، ورحمة وشفقة، فذاك الذي علمه في قلبه، فهو على نور من ربه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: إن الله تعالى يرفع بهذا العلم أقواما فيجعلهم قادة يقتدى بهم في الخير، ويهتدى بهم على طريق الجنة، يظهر بهم الدين، وتؤثر عنهم السنن، وتقمع بهم البدع، ويهلك بهم أهل الباطل، فهم أئمة أحياء، وإن كانوا تحت الثرى، فقد مات أرباب الأموال، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة، وأقوالهم مشهورة، وسيرهم مأثورة.

عباد الله: لقد كان حال سلف الأمة في طلب العلم حالا عجيبا، استثمروا فيه أوقاتهم، وأفنوا شبابهم، فحصلوا منه ما يدعو إلى الدهشة، ويبهر الألباب، ويستنهض الهمم. يقول أبو زرعة: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف الف حديث "أي مليونا" فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته وأخذت عليه الأبواب

ويقول سليمان بن شعبة: كتبوا عن أبي داود أربعين ألف حديث، وليس معه كتاب. ويقول أبو زرعة: أحفظ مائتي ألف حديث، كما يحفظ الإنسان ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾.

أما الإمام البخاري فقد رحل إلى كثير من البلدان، وسمع من أكثر من ألف شيخ، وكان يستيقظ من النوم، فيوقد السراج، ويكتب الفائدة تمر بخاطره، ثم ينام، ثم ينتبه، يفعل ذلك في بعض الليالي عشرين مرة

ويقول ابن رجب، عن أبي الوفاء ابن عقيل: كان من أفاضل العالم، وأذكياء بني آدم، مفرط الذكاء، متسع الدائرة، كان يقول: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عمر الثمانين، ما كنت أجد وأنا ابن عشرين سنة

عباد الله: نعم العلم النافع خليل المؤمن، يكسبه الطاعة لربه في حياته، وجميل الأحدوثة بعد مماته، عمله موصول، والدعاء له ما بقي الدهر مأمول، ويستغفر له كل شيء، وينتفع ما انتفع من علمه الحي، فاطلبوا هذا العلم – عباد الله – تحصلوا على جليل المنافع، وأريح البضائع، لا سيما وقد يسر الله تعالى لكم من فضله سبله، وهيأ لكم وسائله، فقد شاع العلم في هذا العصر وذاع، وبلغ ما بلغ الليل والنهار، وأمكن استماعه من سائر الأقطار، بما هيأ الله من الأسباب، فقد والله عظمت الحجة، واتضحت المحجة، فاذكروا نعمة الله عليكم، وجميل إحسانه إليكم، وتذكروا عظيم حقه عليكم، واستعملوا نعم الله في طاعته، ولا تجعلوها وسيلة لمعصيته ومخالفته، ولا تعرضوا عن ذكره، فتذوقوا وبال أمره، بل اتبعوا هداه، واتصفوا بتقواه، وتفقهوا في دينه، وانتفعوا من تمكينه، وأنذروا قومكم لعلهم يحذرون.