محنة غزة

بسم الله الرحمن الرحيم

محنة غزة

6/1/1430هـ(غ)

أيها المسلمون: أقدارٌ مورودَة، وأقضيةٌ مسطورَة، لله في تقديرها الفَرَج القريب، وهو السّميع المجيب، لا يقابَل أمرُه إلا بالرّضا والصّبرِ على ما قضى، ولا يقابَل البلاء الجسيمُ، إلا بالإيمان والتّسليم، والله بعبادِه لطيف، وفضلُه بهم مطيف.

عباد الله: تُلاقي أمتُكم أعتى المآسي، وأدمَى المجازِر، فظائعَ دامِية، وجرائمِ عاتيَة، ونوازلَ عاثِرة، وجراحًا غائِرة، غُصَصًا تثير كوامِن الأشجَان، وتبعَث على الأسَى والأحزان، في كلِّ ناحيةٍ صوتُ منتِحِب، وفي كلّ شِبر باغٍ ومغتصِب. لم يرحَموا شيخًا لضعف قدمِه وأوصالِه، ولا مريضًا لمرضِه وهُزالِه، ولا رَجلاً لأجلِ عيالِه، ولا طِفلاً لهوانِ حالِه، ولا امرأةً تبكي لعِظم المصاب وأهوالِه. سياساتٌ بلا عَدل، وهمجيَّةٌ بلا عَقل، وليسَ لنا ـ أيّها المسلمون ـ إذا أحاطت الحتوفُ، ونزلَ الأمر المَخوف، واشتدَّ الكرب، وعظُم الخطب، إلا الله جلّ في علاه، وقد كان رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم يدعو عندَ الكربِ بهذه الدعوات: «لا إله إلا الله [العظيم الحليم]، لا إله إلا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السموات السّبع وربّ العرش الكريم» وحسبُنا الله ونِعم الوكيل.

عباد الله: حروب قذرة، يقودها قوم كفرة فجرة، غدرة مكرة، خونة خسرة، لا يرقبون في مؤمن إلا وذمة. هذه فلسطين المباركة، تصبح وتمسي تحت مرارة الفادحة، وألم الفازعة، وصور المأساة، ومشاهد المعاناة، وصرخات الصغار، وصيحات التعذيب والحصار، ولوعات الثكالى، وآهات اليتامى، تصبح وتمسي على صفوف الأكفان المتتالية، وتشييع الجنائز المحمَّلة، والبيوتات المهدَّمة، والمساجد المنتهَكة، أحداثٌُ جسام، تُدمي القلوب، وتفطِّر الأكباد، ويقشعر لهولها الفؤاد. أحداث تؤججها عُصبة الضلال، ويهود البغي والاحتلال.

أيها المسلمون: إن هذه الأحداث والصور ما هي إلا صرخات إيقاظ، واعتبار واتعاظ، ليعرف المسلمون واقعهم ومواقعهم، ويفيدوا من مآسيهم الدروس والعبر، ويقفوا على أسباب النصر والظفر، بعيداً عن ردود الفعل الوقتية التائهة، والهتافات الضعيفة الضائعة، ويصلحوا المسار، ويتجنبوا أسباب الذل والخسار.

عباد الله: إن الواجب على الأمة أن تعلم أن ما أصابها فإنما هو بسبب تقصيرها في جنب ملك الملوك، وتفريطها في الحكم بشريعته. وإذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاموا بمخالفةٍ واحدة لأمره صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، فأصابهم ما أصابهم، فما بالكم بجملةٍ لا تُحصى من المنكرات الفاضحة، والمخالفات الواضحة، التي نخشى من عقوبتها.

أيها المسلمون، إن أرادت الأمة نصر الله وتأييده، فعليها أن تقوم بنصر شريعته ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ من نقض عهد الله وعهد رسوله سلط الله عليه عدوه فأذلّه وأخذ بعض ما في يده، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: « يا معشر المهاجرين، خمسٌ إن ابتلِيتم بهن ، وأعوذ بالله أن تدركوهن: حتى قال: ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوَّهم من غيرهم، فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا ألقى الله بأسهم بينهم » أخرجه الحاكم والبيهقي.

عباد الله: لقد بَلَغ السّيلُ زُباه، والكيدُ مَدَاه، والظّلمُ مُنتَهاه، والظلمُ لا يدوم ولا يَطول، وسيَضمَحِلّ ويزول، والدّهرُ ذو صرفٍ يَدور، وسيعلم الظالمون عاقِبةَ الغرور، فعن أبي موسَى الأشعريّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفلِته، وقرأ: ﴿وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِىَ ظَـٰلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ

أيّها المسلِمون: مهما بَلَغَت قوّةُ الظَّلوم، وضَعفُ المظلُوم، فإنَّ الظالمَ مَقهور مخذول، مُصفَّد مَغلول، وأقربُ الأشياء صَرعةُ الظَّلوم، وأنفذ السِّهام دعوةُ المظلوم، يرفعها الحيّ القيوم، فوقَ الغُيوم، يقول صلى الله عليه وسلم: «ثلاثةٌ لا تُرَدّ دعوتهم: الصائِمُ حين يفطِر، والإمام العادِل، ودعوةُ المظلوم يرفعها الله فوقَ الغمام، ويَفتَح لها أبوابَ السماء، ويقول لها الربّ: وعزَّتي وجلالي، لأنصُرنَّك ولو بعدَ حين» أخرجه أحمد

فاتقوا الله عباد الله، وكونوا ممن آمن بربه حق الإيمان وأسلم، وفوَّض أمره إلى مولاه وسلَّم، وانقاد لأوامره واستسلم، وارفَعوا أكفَّ الضّراعة، وتوسّلوا إلى الله بألوانِ الطاعة، أن يرحمَ إخوانَكم المستضعفين المشرَّدين في كلّ مكان، ادعُوا دعاءَ الغريق في الدّجى، ادعُوا وأنتم صادقون في الرّجا، أن يجعلَ للمسلمين من كلِّ همّ فرجًا، ومن كلّ ضيقٍ مخرجًا.

 

الخطبة الثانية

أيّها المسلمون: ابتعِدوا عن مُلتَطَم الغوائِل، وآثِروا السلامة عند الفتَن والنوازِل، واسلُكوا المسالِك الرّشيدة، وقِفوا المواقفَ السّديدة، وراعوا المصالِح، انظُروا في المناجِح، واحقِنوا الدّماء في أهبِها، وإِدُوا الفتنةَ في مهدِها ، وإنّ شريعةَ الإسلام كما جاءت بالسّيف والرّمح ، فقد جاءت بالرّفق والنّصح، وكما جاءت بمنازلةِ العدوّ ، فقد جاءت بالصّبر على بلائه ، والكفِّ عن إيذائه، ليسَ لذاتِه ولا كرامة، بل لمصلحة الإسلام والمسلمين، في مواطنَ تُعمَل فيها الأدلة ، ويعرِفها الراسخون في العلم.

إنّ مراعاةَ حالِ المسلمين ، قوّةً وضعفًا ، قدرة وعجزًا ، ظهورًا وانحسارًا، معتبرةٌ في جرَيان الأحكام ، أو النّهيِ والإلزام ، والتّأثيم وعدمِه, ونحن بحاجةٍ إلى إعدادٍ وبناء ، وصبر ودعاء ، وعودة أقوى والتجاء، وأمام الأمة كثيرٌ من الواجبات والمسؤوليات في تسلسُل تقتضيه السّنَن الربانيّة، وتوجهه النّصوص الشرعية. وإنّ وجودَ المثيرات ، واستفزازَ الظالمين ، وظلم الطغاة ، وجور السلطان ، ليست عذرًا لمخالفة الشريعة ، أو الخروج عن السنّة ، في معالجة الأحداث والقضايا. فإنّ الله تعالى قد تعبّدنا باتّباع شريعته ، لا باتّباع الهوى ، ولا بالاجتهاد المخالفِ للنصّ، ولو كان في ذلك غبنٌ في الظاهر ،أو ألمٌ في الباطِن. أما وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان مستضعفاً ، أمره الله عزوجل في نحو مائة آية ، بأن يكف يده وأن يصبر ، فقال الله عز وجل له ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ﴾ وقال الله له ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُوم﴾ تول عن المواجهة ، بعد تبليغ الدعوة فما أنت بملوم ، ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات وهو الذي لا يتعدى الشرع قيد أنمله ، صبر عليه الصلاة والسلام صبراً شديداً ، وفعل ما أمر الله به ، من تزكية أصحابه ، والدعوة إلى التوحيد ، وإقام الصلاة والصبر ، جاءه استفزاز من الكفار فلم يزعزعه ذلك ، يقتلون أصحابه وهو ينظر ، ويعذبونهم وهو ينظر ، لكنه لايملك لهم شيئا ، فكان يمر على ياسر ، وآل ياسر ، ويقول لهم صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ، واقتِيد أبو جندَل رضي الله عنه يَرسُف في قيوده، يسوقه مشرِك من أمامِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ليرده إلى الكفار بعد صلح الحديبية ، وهو يصيح: أأُرَدّ أُفتَن؟ وأغير الخلق صلى الله عليه وسلم يرى ويصبِر؛ وترك أصحابه بلادهم ، وهاجروا واشتد العذاب والاستفزاز ، فما تزحزح قيد أنمله صلى الله عليه وسلم عض بالنواجذ على أمر الله، وقبض على الصبر كالقابض على الجمر ، فهذه جادة الأولين ، وهذا سبيل المؤمنين ، العواطف يسيرها الدليل .

أيها المحزونُ لهذه الأمّة، أيّها المكلوم لهذه الغمّة، مهما حاولَ أعداءُ الإسلام، ومهما سعَوا من إنزال أنواعِ الفشَل، وألوان الشلل، بالإسلام والمسلمين، فلن يستطيعوا أن يطفِئوا نورَ الله ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ﴾ هذا وعد الله﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً﴾ .