سلسلة منهج السلف (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة منهج السلف (2)

عباد الله: في يوم الحج الأكبر امتن المولى على الأمة، وكرم رسوله صلى الله عليه وسلم، بما أنزل عليه ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾ فكان لابد لهذا الدين الذي كمل من عناية، ولتلك النعمة التي تمت من رعاية، ولهذا الإسلام الذي ارتضاه الله من تمسك وحماية، ولا يكون ذلك إلا بقيام دعاة إلى الله تعالى .

فحمّل الله الأمة مسؤولية ذلك، تتعهد كمال الدين، أن يعتريه النقص، أو تلتصق به الزيادة، وترعى تمام النعمة عليها؛ لتدوم لها الحياة السعيدة، ويطبقون الإسلام الذي رضيه الله لهم في جميع شؤونهم، عبادات ومعاملات، أفراداً وجماعات، حكاماً ومحكومين؛ لتدوم لهم العزة والسيادة «بلغوا عني ولو آية» «نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه لمن هو أفقه منه، ورب مبلغ أوعى من سامع» فحمل خلفاؤه من بعده الأمانة، وواصلوا السير بالدعوة على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾، ففتحت البلاد، ومصرت الأمصار، ووصل الإسلام مشارق الأرض ومغاربها، في ركاب الدعاة إلى الله، سواء كان بالكلمة الطيبة، أو بالموعظة الحسنة، أو بالقدوة والتأسي بالمسلمين الوافدين إليها، في صدق الحديث، ووفاء العهد، وأداء الأمانة، وحسن التعامل، وعدالة الحكم، والتآخي والمساواة بين الناس، والتراحم والتعاطف، وجميع مظاهر مكارم الأخلاق .

وظلت الدعوة قروناً ماضية في مسيرتها، إلى أن طال الأمد، وضعف الوازع، وفتر الدعاة، وظهرت دواعي الهوى، وتغلبت حظوظ الأنفس، وتداخلت العادات والتقاليد، وظهر ما حذر منه صلى الله عليه وسلم «شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه» فانفرط عقد الوحدة الإسلامية، وتحزب المسلمون، وتقسمت أقطار الإسلام، وضيعت الدعوة إلى الله، وصار الجهاد سياسة وتسلطاً وملكا، واشتغل كل بنفسه؛ فتعطلت الحدود، ونحي الإسلام عن مناهج الحياة ؛ فظهرت الفتن، ووقعت الفوضى، فطمع فيهم العدو، وغزاهم في بلادهم، وغير مناهج حياتهم، حتى لم يبق من الإسلام في بعض البلاد إلا اسمه.

وبهذا تحتمت ضرورة الدعوة إلى الله ؛ لإصلاح ما أفسده أعداء الإسلام، وقد قال إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمه الله : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها . وفي طريقته صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله خير قدوة، وأكمل منهج ؛ حيث مكث صلى الله عليه وسلم سنوات يدعو الناس إلى التوحيد، وينهاهم عن الشرك، قبل أن يأمرهم بالصلاة والزكاة، والصوم والحج، وقبل أن ينهاهم عن الربا والزنا، والسرقة وسماع الغنا. فالأصل الأصيل هو تحقيق العبودية لله رب العالمين ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ ولا يكون ذلك إلا بمعرفة التوحيد علما وعملا، واقعا وجهادا.

عباد الله: من جملة السبل التي قد يقف المسلم أمامها حائراً، يريد تمييز الصراط المستقيم فيها!

جانب الدعوة إلى الله، فهناك من لا يري سبيلاً للدعوة إلا عن طريق الجماعات، فيذهب يقول بالأحزاب، ويعقد عليها الولاء والبراء، وفي تصوره أن العمل الإسلامي، لابد أن يكون عن طريق جماعة، حتى صار يبرر للجماعات الإسلامية، ويستدل على مشروعيتها!

وهناك من لا يرى العمل الجماعي، ويرى أن الدعوة فردية فقط؛ ويرد الأعمال الجماعية مطلقاً!

والصراط المستقيم، أن الجماعة ليست شرطاً في العمل الدعوي، وأن العمل الإسلامي يقوم به الأفراد، ويقوم به الجماعات، إذا كان خاليا عن الانتماءات الحزبية، التي يحصل عليها الولاء والبراء، وبعيدا عن التفرق والاختلاف، بل تعاون على البر والتقوى، كما قال الله ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾. أمّا أن يفرق الناس، فيصير كل فرد منهم له حزب وجماعة، وهذه الجماعة تعادي هذه، وكل حزب بما لديهم فرحون، فهذه الصورة، بعيدة عن صورة المجتمع المسلم، الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما جاء في (خ م) عَنْ أَبِي مُوسَى عَنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ».

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي اهتدى بهديه المهتدون، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون،...

عباد الله: ومن جملة السبل التي قد يقف المسلم أمامها حائراً، يريد تمييز الصراط المستقيم فيها!

جانب التربية، فمن الناس من لا يعرف من التربية وأصولها وطرقها، إلا ما قررته مدارس الغرب، ومن اشتغل بها منهم! ويريد أن يجعل كل ما حوله، وفق هذه النظرة التربوية المجردة!

ومن الناس من يذم التربية وما فيها و لا يقبل منها شيئاً، بل ولا يلقي لها بالاً!

والصراط المستقيم، أن التربية في الإسلام، لها أصولها المعتبرة، وهي الدين كله، فمعين التربية في الإسلام ومنابعها، الكتاب والسنة على ضوء فهم السلف الصالح، والعلماء الربانيون هم التربويون على الحقيقة! ولم يأت الغرب ومن لف لفهم فيه بشيء جديد!

ومن ذلك جانب التعليم والإصلاح، فمن الناس من يرى أن الإصلاح والتغيير من القمة، فيبدأ في دعوته بالحكام والرؤساء، وقد يدخل في جو من التصادم والخصام، و لا يهمه أن يوقع في المجتمع الشقاق أو الصدوع، كل همه الوصول إلى السلطة، متخذا كل ما يمكن أن يوصله إلى غايته سبيلاً!

ومن الناس من جعل السياسة هي دعوته وهدفه، ويزعم أن سبيل الإصلاح العام والتعليم، هو السياسة والخوض في أمر الواقع، والحديث عن جوانبه، وما يتصل به من اقتصاد وغيره!

والصراط المستقيم أن يهتم المسلم بتعليم نفسه وتعليم أدناه فأدناه، ويبدأ بتعليم نفسه ومن يليه أمر دينه؛ ليقوم بعبادة ربه، ويعلم أنه لا يَصلح الفرد إلا إذا صلح قلبه، و لا تصلح الأسرة إلا إذا صلح الفرد، ولا يصلح المجتمع إلا إذا صلحت الأسرة، وصلاح المجتمع صلاح الأمة! يبدأ بالعلم قبل القول والعمل ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ يبدأ بنفسه فيطبق عليها ما يدعو إليه، ويستقيم عليه ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ ودعوة الأدنى فالأدنى من حسن الصحبة، فعند (م) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أَبُوكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» يوقن أن الله لا يغير ما في قوم، حتى يغيروا ما بأنفسهم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ ويعمل بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدعو إلى طاعتهما، ويرجو وعد الله ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾. فكل من دعا الناس، بدون كتاب وصحيح سنة، على فهم سلف الأمة، فهو صاحب هوى وفساد.

عباد الله: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، واسلكوا طريق الحق الذي له هديتم، وعليكم بالسنة التي بها فضلتم، تمسكوا بها ولا تستوحشوا من قلة السالكين، واهجروا الضلالات ولا تغتروا بكثرة الهالكين، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين، ألا لا يتطاول عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم، ولا يلهينكم الأمل فإن كل ما هو آت قريب.

فاللهم اهدنا وذرياتنا سبيلك، ووفقنا لخدمة دينك، وعاملنا بغفرانك، وفقهنا في دينك، وأعذنا من الشيطان الرجيم، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعلنا ممن يهدون بالحق وبه يعدلون، وهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماما.