سلسلة منهج السلف (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة منهج السلف (1)

عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، واتبعوا ما جاءكم من ربكم من النور والهدى، واستمسكوا بسنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ، تنجوا من فتن عظيمة في زمانكم تترى، وإياكم والمحدثات في الدين، فإنها البدع التي تضل عن الهدى، وتورث العمى، وتسلب النعمى، وتجلب الردى، وتهوي بصاحبها إلى حفر من النار تلظى.

عباد الله: يرى المسلم في هذا العصر اختلافاً كثيراً حيثما وجّه وجهه، سواء في باب مسائل الفقه من عبادات ومعاملات، أم في مناهج الدعوة، أم في غير ذلك ! ويقف بعض الناس أمام هذا الاختلاف الكثير، حائرين مترددين، إذ إن على كل مفترق دعاة يزينونه ويستدلون له، ويلبسون ما لديهم من الباطل بشيء من الحق، فلا يكاد يبين! وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم السبيل، وأوضح المحجة، فما تركنا إلا على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك! فأوضح الصراط المستقيم، وقال صلى الله عليه وسلم : «من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ»

قال عبدالله بن مسعود: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وخط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال: هذا سبيل الله، وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾".

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإذا تأمل العاقل الذي يرجو لقاء الله هذا المثال ، وتأمل سائر الطوائف من الخوارج، ثم المعتزلة، ثم الجهمية والرافضة، ومن أقرب منهم إلى السنة، من أهل الكلام، مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم، وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث، ويدعي أن سبيله هو الصواب؛ وجدت أنهم المراد بهذا المثال، الذي ضربه المعصوم، الذي لا يتكلم عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى"اهـ 

عباد الله: أخرج (حم د ت) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ ... وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي».

فالأصل الذي يميز الصراط المستقيم عن غيره من السبل: أنه يقوم على الكتاب والسنة، على ضوء فهم سلف الأمة، وهذا سبيل المؤمنين الذي يلزم اتباعه، طاعة لأمر الله حيث قال ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ». وطلباً لسبيل النجاة، والفكاك من التوعد بالنار، حيث قال صلى الله عليه وسلم محذراً من مخالفته لما ذكر الفِرَق والافتراق : «كلها في النار إلا واحدة. قيل ومن هي؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي».

وهذا السبيل لا يستطيعه أهل البدع والأهواء، فإنهم يشتركون مع أهل السنة في انتحال الكتاب والسنة، ولكنهم ينقلبون على ظهورهم، إذا جاء القيد الذي هو عصمة الفهم، وهو أن يتقيد الفهم للكتاب والسنة، بفهم سلف الأمة! فالسبيل الذي على المسلم أن يسلكه أمام هذه المفارق، التي قد يقف أمامها حائراً متردداً! هو سبيل النجاة والفكاك من النيران، والبعد عن سبل الشيطان، سلوك الصراط المستقيم، الذي هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

وهذه جملة من السبل التي قد يقف المسلم أمامها حائراً، يريد تمييز الصراط المستقيم فيها ليسلكه! فمن مفارق الطرق التي يقف أمامها المسلم:

1ـ الاتجاه الحضاري، وله سبل ؛ فمن الناس من يرى أن الحضارة والتقدم، هي أن نأخذ ما عند الغرب كما هو، ومنهم من يرى أن الحضارة بدعة، فينبذ كل ما جاءت به، والصراط المستقيم، أن يقبل من الحضارة الغربية ما وافق الدين أو لم يخالفه، أمّا ما يخالف الدين فلا اعتبار له، فلا نأخذ من حضارة الغرب ما يتنافى مع الإسلام، أو ما هو من خصائصهم في حياتهم، إذ النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من التشبه بالكفار، فعَنِ  عبد الله بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ».

فاللهم إنا نسألك العفو والعافية، في الدنيا والآخرة.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: ومن جملة السبل التي قد يقف المسلم أمامها حائراً، يريد تمييز الصراط المستقيم فيها ليسلكه!

 2ـ الاتجاه الفقهي، ويشتمل على عدة سبل؛ فإمّا أن يسلك المسلم سبيل المقلدة! فيقلد في دينه مطلقاً سواء كان عامياً أم لا، وسواء تبين له الدليل أم لا! وإمّا أن يسلك سبيل الاجتهاد، دون تفرقة بين العوام وطلاب العلم، فالكل عليه النظر والاجتهاد، ويعمل بعقله، فيصير كل شخص يجتهد وله رأي.

والصراط المستقيم، أن يسلك السبيل الذي قرره أهل العلم، الذين تبعوا سبيل المؤمنين، ولزموا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فقالوا: المسلم إمّا أن يكون عالماً بالحكم من الكتاب والسنة، فوظيفته النظر فيهما، وطلب حكم الله منهما، على ضوء فهم سلف الأمة رضوان الله عليهم! وإمّا أن يكون غير عالم، ووظيفة من لا يعلم، سؤال من يعلم، دون أن يقيد سؤاله بعالم معين، فيسأل من يثق في دينه وعلمه وورعه وتقواه، امتثالاً لأمر الله عزوجل: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ .

وعلى العامي إذا ما أجابه المفتي ـ الذي يثق في علمه وورعه وتقواه ـ أن يتعبد الله بفتواه، و لا يتنقل من سؤال عالم إلى عالم آخر، بحثاً عن ما يوافق هواه؛ فإن هذا من اتباع الهوى والتشهي!

ومن ذلك:

3ـ الاتجاه الاقتصادي، وله سبل؛ فمنها ما يعرف بالرأس مالي! ومنها ما يعرف بالاشتراكي! ومنها .. ومنها ...

والصراط المستقيم، اتباع ما جاء في الإسلام، من إحلال البيع وتحريم الربا، وإثبات الملكية الفردية، ومنع الضرر والضرار، فلا غرر و لا تغرير و لا احتكار، وأن يعلم العبد من أين اكتسب ماله وفيما أنفقه. قال الله تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ .

وليعلم يا عباد الله: أن هذه بعض السبل بحسب الاتجاهات المذكورة، والقضية يمكن تطبيقها على اتجاهات كثيرة، والمؤمن الحصيف لديه ميزان يفرق به بين الحق والباطل، فإذا ما وقف أمام شيء من هذه الاتجاهات أو غيرها، ينظر أيها وفق ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيتبعه، فإن فيه الهدى والنور، ومن يتق الله يجعل من أمره رشدا، ويجعل له فرقاناً يفرق به بين الحق والباطل ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ .

وللحديث بقية في الخطبة القادمة - إن شاء الله - حول طرائق الناس: في الاتجاه الدعوي ووسائل الدعوة، والأخلاق، والتربية، والتعليم والإصلاح.