الزلازل

بسم الله الرحمن الرحيم

الزلازل

عباد الله: إن من آيات الله الدالة على عظيم سلطانه وقهره، ما حل بالأمم السابقة من أنواع العذاب والهلاك، لما كذبوا رسله، وعصوا أمره. ولقد أهلك الله عز وجل أممًا وأقواماً، وقروناً وأجيالاً،كانوا أشد منا قوة، وأطول أعماراً، وأرغد عيشاً، وأكثر أموالاً،فأستأصلهم وأبادهم، ولم يبق لهم ذكر ولا أثر، وتركوا وراءهم قصوراً مشيدة، وآباراً معطلة، وأراضٍ خالية، وزروعاً مثمرة،ونعمة كانوا فيها فاكهين، فأورث كل ذلك قوماً آخرين ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم و جرائمهم، فعذب قوم عاد بالريح الشديدة العاتية، التي لا يقوم لها شيء، وعذب قوم لوط بأنواع من العذاب، لم يعذب بها أمة غيرهم، فجمع لهم بين الهلاك، والرجم بالحجارة من السماء، وطمس الأبصار، وقلب ديارهم عليهم بأن جعل عاليها سافلها، والخسف بهم إلى أسفل سافلين، وعذب قوم شعيب بالنار التي أحرقتهم، وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان، وأما ثمود فأهلكهم بالصيحة فماتوا في الحال ... ومن اعتبر أحوال العالم قديماً وحديثاً وما يعاقب به من يسعى في الأرض بالفساد، وسفك الدماء بغير حق، وأقام الفتن، واستهان بحرمات الله، علم أن النجاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون"أ.هـ

عباد الله: لقد قص الله علينا خبر أولئك؛ لنحذر صنيعهم، ونجتنب سبيلهم، ولا نأمن من مكر الله. وقد ظهر في وقتنا، وفشا في زماننا، من الفتن وتغيير الأحوال وفساد الدين، واختلاف القلوب وإحياء البدع وإماتة السنن، ما دل على انقراض الدنيا وزوالها، ومجيء الساعة واقترابها؛ إذ كل ما تتابع من ذلك وانتشر، وفشا وظهر، قد أعلمنا به نبينا وخوفناه، وسمعه منه صحابته رضوان الله عليهم وأداه عنهم التابعون، ونقله أئمتنا إلينا عن أسلافهم، ورووه لنا عن أوليهم. وإن من آيات الله العظيمة: تلك الأعاصير المدمرة، والفيضانات المهلكة، والزلازل المروعة، التي تهلك الحرث والنسل، وتثير الرعب والفزع، ففي(خ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله: «لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل حتى يكثر فيكم المال فيفيض».

وعند(ت) من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا اتخذ الفيء دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخرُ هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء، وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا، وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع»

وخرج (حم) عن سلمة بن نفيل السكوني قال كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه: «وبين يدي الساعة موتان شديد، وبعده سنوات الزلازل» قال ابن حجر: قوله: قد وقع في كثير من البلاد الشمالية والشرقية والغربية كثير من الزلازل.

عباد الله: يقول العلامة ابن القيم: " تأمل خلق الأرض على ما هي عليه حين خلقها واقفة ساكنة، لتكون مهادا ومستقرا للحيوان والنبات والأمتعة، ويتمكن الناس من السعي عليها في مآربهم، والجلوس لراحتهم، والنوم لهدوئهم، والتمكن من أعمالهم، ولو كانت رجراجة متكفئة لم يستطيعوا على ظهرها قرارا ولا هدوءا، ولا يثبت لهم عليها بناء، ولا أمكنهم عليها صناعة ولا تجارة، وكيف يتهنون بالعيش والأرض ترتج من تحتهم؟ واعتبروا بما يصيبهم من الزلازل على قصر وقتها كيف تضطرهم إلى ترك منازلهم والهرب عنها؟ وقد نبه الله إلى ذلك بقوله ﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ وقد يحدث الله فيها الزلازل العظام؛ ليحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية، والإنابة والإقلاع عن معاصيه، والتضرع إليه والندم " أ.هـ

عباد الله: لقد كثرت الزلازل المروعة التي أهلكت الإنسان، ودمرت العمران، وقد تتابع وقوع ذلك في سنين متقاربة، ومنها ما سمعتم في هذه الأيام القريبة، كم تسمعون من الحوادث وتشاهدون من العبر؟ حروب في البلاد المجاورة، أتلفت أمما كثيرة، وشردت البقية عن ديارهم، يتمت أطفالاً، ورملت نساء، وأفقرت أغنياء، وأذلت أعزاء، وأخرى كوارث متنوعة، عواصف وأعاصير، وهناك زلازل وبراكين، وحوادث طائرات ومركبات، كل ذلك يخوف الله به عباده، ويريهم بعض آثار قوته وقدرته، ويعرفهم ضعفهم، ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً﴾ ولا شك يا عباد الله أن فيها عبر وعظات لا يدركها إلا أولوا الألباب، وهي تظهر قدرة الله الباهرة، حيث يأذن لهذه الأرض أن تتحرك لبضع ثوان، فينتج عن ذلك هذا الدمار، وهذا الهلاك، وهذا الرعب، ولقد جاء في بعض الآثار أن ذلك يكثر في آخر الزمان .

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه

وإن من الخطأ يا عباد الله ما يتردد في أوساط الناس، من أن هذه ظواهر طبعية، فواعجبا ما أشد غفلة الإنسان! وما أكفره بقدرة رب الأرباب، ومسبب الأسباب ﴿قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ . ولنا مع سلفنا الصالح رحمهم الله وقفة مباركة لنتبين كيف كان حالهم في مثل هذه المواقف العظيمة:

فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه زلزلت الأرض في عهده فجمع الناس ووعظهم فقال: "يا أيها الناس ما أسرع ما أحدثتم،لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم".

وقال بعض السلف رحمهم الله لما زلزلت الأرض: "إن ربكم يستعتبكم".

وهذا أنس بن مالك يروى عنه أنه قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها ورجل معها، فقال الرجل: يا أم المؤمنين، حدثينا حديثا عن الزلزلة . فأعرضت عنه بوجهها، فقلت لها: حدثينا يا أم المؤمنين عن الزلزلة، فقالت: يا أنس إن حدثتك عنها عشت حزينا، ومت حزينا، وبعثت حين تبعث وذلك الحزن في قلبك. فقلت: يا أماه حدثينا، فقالت: إن المرأة إذا خلعت ثيابها في غير بيت زوجها، هتكت ما بينها وبين الله عز وجل من حجاب، وإن تطيبت لغير زوجها، كان عليها نارا وشنارا، فإذا استحلوا الزنى، وشربوا الخمور بعد هذا، وضربوا المعازف، غار الله في سمائه، فقال للأرض تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا وإلا هدمها عليهم، فقال أنس عقوبة لهم؟ فقالت رحمةً وبركة وموعظة للمؤمنين، ونكالا وسخطة وعذابا للكافرين، قال أنس فما سمعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا أنا أشدُ به فرحا مني بهذا الحديث، بل أعيش فَرِحا، وأموت فرحا، وأبعث حين أبعث وذلك الفرح في قلبي أو قال في نفسي.

عباد الله: إن المتأمل في أحوال المسلمين اليوم، يجد لديهم من البدع والشرك وسائر المعاصي ما الله به عليم. فترى الشرك الأكبر، من الطواف حول القبور، والعكوف حولها، وسؤال الأموات. والبدع مكان السنن، إضافة إلى محاربة الإسلام سراً وجهراً. وانتشار الربا وأكل أموال الناس بالباطل وكثرة الفواحش كالزنا وتبرج النساء وشرب الخمور والفجور،والظلم والجور.

وإذا كانت كل هذه المصائب تحدث في بلاد المسلمين إلا من رحم الله فهل نستغرب بعد ذلك أن يعاني المسلمون هذه الأيام من تسلط أعدائهم، وهل نستغرب حصول المصائب الأخرى كالفقر والمرض، والتخلف والتعرض للفيضانات والسيول والزلازل والخسف وغير ذلك. لا نستغرب أبداً وصدق الله ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾.