حقوق الكبار

بسم الله الرحمن الرحيم

حقوق الكبار

﴿الْحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ﴾ و ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أحمد ربي وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وفق من شاء من عباده لما يرضيه، فكان سعيهم مشكوراً ، وجزاؤهم موفوراً ، وضل كثير من خلقه عن الصراط المستقيم ، فكان سعيهم مردوداً ، وعملهم هباءً منثوراً ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد : فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل ، فإن الأيام تتسارع ، والحوادث تتابع ، والفتن تتعاظم ، ولا منجاة من غلوائها وشرها إلا بتقوى الله عز وجل

أيها الناس : من توفيق الله تعالى للعبد أن يملأ قلبه بالإيمان واليقين ، ويهديه الصراط المستقيم ، فيقضي العبد حياته في طاعة الله عز وجل ، ويصرف أوقاته فيما يرضيه سبحانه وتعالى . ومن كان كذلك فإن طول عمره يزيد في عمله ، وعمله الصالح يزيد في حسناته ، ويرفع درجاته ، فهنيئاً لمن عمر طويلا ، وقضى حياته في طاعة الله تعالى .

وإن من الخذلان والخسارة أن يمد للعبد في عمره ، ويرزق عافية في جسده ، فتمضي حياته في المعصية والخسران .

كم رأينا من عباد لله صالحين ، من آباء وأمهات ، وأجداد وجدات ، وجيران وقرابات ، شابت رؤوسهم في الإسلام ، ينام أحدهم مبكرا، ليقوم ما شاء الله أن يقوم، يراوح بين جبهته وقدميه، مستشعرا قول الله ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ ثم يخرج من بيته إلى المسجد واضعا نصب عينيه «بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة» ولا يؤذن الفجر إلا وقد دخل المسجد فيصلى ما كتب الله، ثم يأخذ كتاب ربه بيمينه، يردد آياته ، ويتعظ بعظاته، ويقيم حدوده، ولا يغادر مصلاه حتى تطلع الشمس ، يخرج من المسجد وقلبه معلق به «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .. ورجل قلبه معلق بالمساجد» قد كف لسانه عن سيء الأقوال، وعينه عن النظر إلى الحرام، وأذنه عن سماع الآثام، لا تراه إلا في عبادة، ولا تسمع منه إلا التسبيح والذكر، إذا رأيته ذكرت الله . نصبت أركانه في طاعة الله عز وجل ، قد أعرض عن الدنيا ، وتركها لأهلها ، وأوقف نفسه لله تعالى ، أعمار مديدة ، وأيام كثيرة قضوها في طاعة الله عز وجل ، فيا لله ما أحسن سعيهم ! وما أعظم فوزهم .

إن طول العمر مع حسن العمل، نعمةٌ من الله تعالى، يهبها من شاء من عباده، وإن العمر المديد، إذا صاحبه سوء عمل، كان نقمة على صاحبه، كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه :أن رجلاً قال : يا رسول الله ، أي الناس خير؟ قال: من طال عمره وحسن عمله ، قال : فأي الناس شر ؟ قال : من طال عمره وساء عمله رواه أحمد والترمذي ، وفي حديث عبدالله بن بسر رضي الله عنه قال : «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، أين الناس خير؟ قال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله ، قال : يا رسول الله ، أي الأعمال أفضل ؟ قال : أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل» رواه أحمد والترمذي .

إن طول العمر مع حسن العمل، قد يُدرك العبد به درجة المجاهد الذي قتل في سبيل الله تعالى ، بل قد يتجاوزه ، فيكون له من الفضل ما ليس للشهيد، الذي قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، ففي المسند من حديث طلحة رضي الله عنه «أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعاً ، وكان أحدهما أشدَّ اجتهاداً من صاحبه ، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ، ثم توفي ، قال طلحة : فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة،فأذن للذي توفي الآخر منهما ، ثم خرج فأذن للذي استشهد، فرجعا إلي فقالا لي : ارجع فإنه لم يأنِ لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس فعجبوا لذلك ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أي ذلك تعجبون ؟ قالوا : يا رسول الله ، هذا كان أشدَّ اجتهاداً ثم استشهد في سبيل الله ، ودخل هذا الجنة قبله !! فقال : أليس قد مكث هذا بعده سنة؟قالوا : بلى . وأدرك رمضان فصامه؟ قالوا : بلى . وصلى كذا وكذا سجدة ؟ قالوا : بلى . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلَما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض»

أسأل الله تعالى أن يستعملنا في طاعته

الخطبة الثانية :

أما بعد : فاتقوا الله ربكم ، وتزودوا من دنياكم لأخراكم ، ومن صحتكم لمرضكم ، ومن حياتكم لموتكم ، فإن السعيد من عمر وقته بطاعة الله عز وجل، وإن الشقي من ضاع عمره في اللهو والغفلة.

أيها الناس : إن من الآداب العظيمة ، والأخلاق الرفيعة، والصفات النبيلة، أن توقر ذا الشيبة من المسلمين،يقول صلى الله عليه وسلم «إنَّ مِن إجلالِ الله إكرامَ ذي الشَّيبةِ من المسلمين، وحامِلِ القرآن غيرِ الغالي فيه والجافي عنه، وذي السلطانِ المقسِط» فمن إجلال الله أن تكرمَ ذا الشيبةِ من أهل الإسلام، فترحَم كِبَره، تخاطبه بخطابٍ ليِّن، تقضي حاجتَه، تعينه على نوائِبِ الدنيا.

ونبيّنا صلى الله عليه وسلم إذا تحدّث عنده اثنان في أمرٍ ما ، يبدَأ بأكبَرهما بالحديث ويقول: «كبِّر كبِّر» هكذا خلُق الإسلام، وهكذا رُبِّي المسلمون ، أن يحترِمَ صغارهم كبارَهم، وأن يرحَمَ كبارهم صغارَهم، وأن تتبادلَ المنافع بين الجميع ليكون المجتمع المسلم مجتمعًا مترابِطًا متعاونًا على الخير والتقوى.

نقف مع الكبير ،مع حقوقه التي طالما ضُيَّعت، ومشاعره وأحاسيسه التي طالما جرحت، ومع آلامه وهمومه، وغمومه وأحزانه، التي كثرت وعظمت.

أصبح الكبير اليوم غريبًا، حتى بين أهلِه وأولاده ثقيلاً ،حتى على أقربائه وأحفاده، من هذا الذي يجالسه؟ من هذا الذي يؤانسه؟ من هذا الذي يباسطه ويدخل السرور عليه؟.

إذا تكلم الكبير قاطعه المردان, وإذا أبدى رأيه ومشورته سفهه الصغار والصبيان, فأصبحت حكمته وحنكته إلى ضيعة وخسران.

يا معاشر الكبار، أنتم كبار في قلوبنا, وكبار في نفوسنا, وكبار في عيوننا, كبار بعظيم حسناتكم وفضلكم بعد الله علينا، أنتم الذين علمتم وربيتم، وبنيتم وقدمتم وضحيتم، لئن نسي الكثير منا فضلكم، فإن الله لا ينسى, ولئن جحد الكثير معروفكم، فإن المعروف لا يَبْلى, ولئن طال العهد على ما قدمتموه من خيرات، فإن الخير يدوم ويبقى، ثم إلى ربك المنتهى, وعنده الجزاء الأوفى ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً

يا معاشر الشباب، ارحموا الكبار وقدروهم، ووقروهم وأجلُّوهم، فإن الله يحب ذلك ويثني عليه, إذا رأيت الكبير فارحم ضعفه, وأكبر شيبَهُ, وقدِّر منزلته, وارفع درجته, وفرج كربته، يعظم لك الثواب, ويجزل الله لك به الحسنى في المرجع والمآب.

يا معاشر الشباب، أحسنوا لكبار السن لاسيما الوالدين ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ .