حديث النفس

بسم الله الرحمن الرحيم

حديث النفس

عباد الله: هذه أعوام من أعماركم قد تصرّمت أيامها، وقُوِّضت خيامها، وغابت شمسها، واضمحل هلالها، إيذانا بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وأن ما بعدها دارٌ إلا الجنة أو النار، فاحذروا الدنيا ومكائدها، فكم غرّت من مُخلِد فيها، وصرعت من مكبّ عليها، في (خ) أن ابن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".

عباد الله: ذهبت هذه الأعوام شاهدة لكم أو عليكم، فاحتطبوا زاداً كافياً، وأعدوا جواباً شافياً، واستكثروا في أعماركم من الحسنات، وتداركوا ما مضى من الهفوات، وبادروا فرصة الأوقات، قبل أن ينادي بكم منادي الشتات، ويفجأكم هادم اللذات، فعن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يعظ رجلاً ويقول: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، فما بعد الدنيا من مستعتب، ولا بعد الدنيا دارٌ إلا الجنة أو النار».

فيا من قد بقي من عمره القليل، ولا يدري متى يقع الرحيل، يا من تُعد عليه أنفاسه استدركها، يا من ستفوت أيامه أدركها، نفسك أعزُّ ما عليك فلا تهلكها، خرج (م) من حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها».

ويا من أقعده الحرمان، يا من أركسه العصيان، كم ضيّعت من أعوام، وقضيتها في اللهو والمنام، كم أغلقت باباً على قبيح، كم أعرضت عن قول النصيح، كم صلاةٍ تركتها، ونظرة أصبتها، وحقوق أضعتها، ومناهٍ أتيتها، وشرور نشرتها، أنسيت ساعة الاحتضار؟! حين يثقل منك اللسان، وترتخي اليدان، وتشخصُ العينان، ويبكي عليك الأهل والجيران، أنسيت ما يحصل للمحتضر حال نزع روحه؟! حين يشتد كربه، ويظهر أنينه، ويتغيّر لونه، ويعرق جبينه، وتضطرب شماله ويمينه، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس أكرم على الله من رسوله، إذ كان صفيه وخليله، حين حضرته الوفاة، كان بين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يُدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول كما عند (خ): «لا إله إلا الله، إن للموت سكرات».

عباد الله: أين من عاشرناه كثيراً وألفنا، أين من ملنا إليه بالوجدان وانعطفنا، كم أغمضنا من أحبابنا جَفْناً، كم عزيز دفنّاه وانصرفنا، كم قريب أضجعناه في اللحد وما وقفنا، فهل رحم الموت منا مريضاً لضعف حاله وأوصاله؟! هل ترك كاسباً لأجل أطفاله؟! هل أمهل ذا أسرة من أجل عياله؟! أين من كانوا معنا في الأعوام الماضية؟! أتاهم هادم اللذات، وقاطع الشهوات، ومفرّق الجماعات، فأخلى منهم المجالس والمساجد، تراهم في بطون الألحاد صرعى، لا يجدون لما هم فيه دفعاً، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ينتظرون يوماً الأمم فيه إلى ربها تُدعى، والخلائق تُحشر إلى الموقف وتسعى، والفرائص ترعد من هوله والعيون تذرف دمعاً، والقلوب تتصدع من الحساب صدعاً.

فيا من تمرّ عليه سنة بعد سنة، وهو في نوم الغفلة والسِنة، يا من يأتي عليه عام بعد عام، وقد غرق في بحر الخطايا وهام، قل لي بربك لأي يوم أخرت توبتك؟! ولأي عام ادخرت أوبتك؟! إلى عام قابل، وحول حائل، فما إليك مدة الأعمار، ولا معرفة المقدار، فبادر التوبة واحذر التسويف، وأصلح من قلبك ما فسد، وكن من أجلك على رصد، وتعاهد عمرك بتحصيل العدد، فقد أزف الرحيل، وقرب التحويل، والعمر أمانة، سيُسأل عنه المرء يوم القيامة، فعند (ت) عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه».

ويقول ابن مسعود: "ما ندمتُ على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي".

فيا عبد الله، استدرك من العمر ذاهباً، ودع اللهو جانباً، وقم في الدجى نادباً، وقف على الباب تائباً، بلسان ذاكر، وجفن ساهر، ودمع قاطر، عند (م)  عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها».

فأحسن فيما بقي، يُغفر لك ما مضى، فإن أسأت فيما بقي، أُخذت بما مضى وبما بقي.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: إن الأيام تطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تبلى، والسعيد من طال عمره وحسن عمله، والشقي من طال عمره وساء عمله، فعن أبي بكرة أن رجلاً قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله»، قال: فأي الناس شر؟ قال: «من طال عمره وساء عمله» خرجه (ت).

فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، والأعمال بالخواتيم، والمرء يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه. في صحيح (م) عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يُبعث كل عبد على ما مات عليه».

وهذا باب التوبة مفتوح، وقوافل التائبين تغدو وتروح، فالبدار البدار إلى توبة نصوح، قبل الممات والفوات، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً﴾ ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ .

عباد الله: أين الحسرات على فوات أمس؟! أين العبرات على مقاساة الرمس؟! أين الاستعداد ليوم تدنو فيه منكم الشمس؟! فتوبوا إلى ربكم قبل أن يشتمل الهدم على البناء، والكدر على الصفاء، وينقطع من الحياة حبل الرجاء، وقبل أن تخلو المنازل من أربابها، وتؤذن الديار بخرابها، واغتنموا ممرَّ الساعات والأيام والأعوام، وليحاسب كل واحد منكم نفسه، فقد سعد من لاحظها وحاسبها، وفاز من تابعها وعاتبها. وهلموا إلى دار لا يموت سكانها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبابها، ولا يتغير حُسنها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما عند (م): «من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه».

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.