الحث على قيام الليل

بسم الله الرحمن الرحيم

الحث على قيام الليل

عباد الله: الليل وقت غفلات الغافلين، والوساد العريض للنائمين، يتعرض فيه أرباب العزائم، للنفحات الرحمانية، والألطاف الإلهية، والمنح الربانية، حينما تكون العبادة أشقّ وأخلص، والنية أدق وأمحص.

سجود المحراب، واستغفار الأسحار، ودموع المناجاة،صفة لعباد الله الصالحين، وسمة لحزبه المفلحين ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ المؤمنون تتجافى جنوبهم عن وطء المضاجع، كلهم بين خائف مستجير وطامع، تركوا لذة الكرى للعيون الهواجع، ورعوا أنجم الدجى طالعًا بعد طالع، واستهلت عيونهم فائضات المدامع، ودعَوا: يا مليكنا يا جميل الصنائع ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ﴾ .

إن قيام الليل عبادةٌ تصل القلب بالله، وتجعله قادراً على مقاومة مغريات الحياة، وعلى مجاهدة النفس في وقت هدأت فيه الأصوات، ونامت فيه العيون، فهو من مقاييس العزيمة الصادقة، وسمات النفوس الكبيرة.

يقول الحسن رحمه الله: "مدُّوا الصلاة إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون". وكان ابن عمر يصلّي ثم يقول لمولاه نافع: يا نافع، هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح. ويقول الفضيل بن عياض: "بكاء النهار يمحو ذنوب العلانية، وبكاء الليل يمحو ذنوب السر".

المستغفرون بالأسحار، نجاتهم في مناجاتهم، وصِلتهم في صلاتهم، وفي رمضان يزداد شرفًا وأهميةً وفضلاً، يقول العلامة السعدي رحمه الله: "وللاستغفار بالأسحار فضيلة وخصيصة ليست لغيره".

كم من مكروب غلبته عينه عن حاجته ومقتضاه، كم من مكلوم لم يفقه دواءه وسر شفائه. فما أحوجنا للتعرض لنفحات العزيز الغفار، والانطراح بين يديه في أوقات الأسحار، عله تعالى أن يغفر الذنب، ويستر القبيح، ويعفو عن الزلل، ويوفقنا إلى صالح العمل.

قال الفضيل بن عياض: "إذا لم تقدر على قيام الليل، وصيام النهار، فاعلم أنك محروم قد كثرت خطيئتك"، وقال رجل للحسن البصري: إني أبيت معافىً وأحبُّ قيامَ الليل وأعدّ طهوري، فما بالي لا أقوم؟! فقال: "قيَّدتك ذنوبك".

وإذا لم يكن لك حظّ من الليل فكن كما قال بعض السلف: "إن لم يكن لك حظّ من الليل فلا تعصِ ربك في النهار".

إن من الحرمان ، أن يتسلَّط الشيطان، ليصرف البعضَ عن الذكر والعبادة والقيام، في أعظم مواسم الخير والرحمة والفضل، ومن جدّ واجتهد في طلب أمر ضحّى من أجله، وفي سبيله استسهل الصعب، وتلذذ بأي مشقة في الدرب، يتقلب في أنواع القربات والطاعات ليلاً ونهارا، يومه كله عبادة، وجوارحه في طاعة، تراه قائماً، فإذا فرغ أمسك القرآن بيده تالياً، ثم لهج لسانه بالذكر والاستغفار مردِّداً، ثم رفع أكفَّ الضراعة سائلاً، قلبُه خاشع، لسانه ذاكر، عينه باكية، جوارحه خاضعة، قد شغِل عن جميع الناس بطاعة إله الناس.

فما أجمل صلاة المصلين، ودموع الباكين، ومناجاة الخاشعين. وما ألذ زفرات المذنبين، وآهات التائبين، وأنين المستغفرين ، وما أصدق دعاء المخبتين، ومناجاة المحبين، ووجد المشتاقين.

قد هدّ أجسامهم الوعيد، وغير ألوانهم السهر الشديد، يتلذذون بكلام الرحمن، ينوحون به على أنفسهم نوح الحمام، يرون أن من أعظم نعم محبوبهم عليهم، أن أقامهم وأنام غيرهم، واستزارهم وطرد غيرهم، وأهلهم وحرم غيرهم.

بكى الباكـون للرحمن ليلاً *** وباتوا دمعهم لا يسأمونا

بقاع الأرض من شوق إليهم *** تحن متى عليها يسجدونا

فلما علم الله صدق همتهم، وصفاء نيتهم، جعل لهم نوراً يمشون به في الناس، قيل للحسن البصري: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بنور الرحمن، فألبسهم نوراً من نوره. لقد سمعوا نداء الله حين يتنزل في الثلث الأخير فاستحوا ألا يجيبوا خالقهم ومولاهم.

الخطبة الثانية:

ما أكثر الفوائد التي يجنيها الفرد من قيام الليل، لتربية ذاته وصلاح حاله، ومن أهمِّ الثمار تنميةُ وازع الإخلاص، تحقيق المتابعة بالاقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. ومن تدبر القرآن أثناء هجوع الناس أحسَّ بتقصيره، وندم على تفريطه، ومن خشع في القرآن والصلاة، سالت منه عبرات الندم والتوبة، وإذا ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، حشره رب العزة والجلال في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

قيامُ الليل يورثُ القلبَ رقةً ونوراً، قال عطاء الخرساني: "كان يقال: قيام الليل محياة للبدن، ونور في القلب، وضياء في البصر، وقوة في الجوارح.

قيام الليل سببُ رفع الدرجات، وبابٌ عظيم من أبواب الخير، ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يبقى ثلث الليل فيجيب دعوة الداعي، ويعطي السائلَ سؤله، ويغفر ذنبَه،كما عند مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كلَّ ليلة» وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الجنة فقال: «إن في الجنة غرفةً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها»، فقال أبو موسى الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وباتَ لله قائماً والناس نيام» أخرجه أحمد

أيها المسلمون: هذه الليالي أوقاتُ إجابة الدعوات، وإعتاق الرقاب المثقلات، هذه أوقات يُتضرَّع فيها بين يدي إله الأرض والسموات ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ .

فاجتهد أن تصلي ما تيسر من الليل، اجتهد أن تصلي التراويح، والقليل من صلاة الليل كثير، واصبر على ذلك وداوم عليه، فبالصبر والمداومة والإخلاص، تنال من ربك التثبيت والمعونة، واعلم أن دقائق الليل غالية، فلا تُرخصها بالغفلة والتواني والتسويف.

عباد الله : إن من الأسباب الميسرة لقيام الليل والمعينة عليه، الإقبال على الله، وصدق التعلق به، مع حسن الظن به سبحانه، وعظم الرجاء فيما عنده، والحرص على الابتعاد عن الذنوب، وحسبك من طعامك لقيمات، فمن أكثر من الطعام ثقلت نفسه، وغلبه نومه، وقد قالوهب بن منبه رحمه الله: "ليس أحبّ للشيطان من الأكول النوام" .

واحرص على سلامة القلب من الحقد والحسد، واجتناب البدع، ولزوم السنة، والحرص عليها،ولتعلم أن أشرف البواعث وأعظمها حبّ الله ومناجاته، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحب كتابه.

وإن مما يحُث الهمة ويبعث القوة أن تعلم أنك في أيام فاضلة، وأوقات شريفة، في شهر مبارك، المغبون من فرط فيه، والخاسر من لم ينافس فيه، هو ميدان التسابق لقُوَّام الليل، وساحات التنافس للركّع السجود، هذه الأيام من أرجى الأيام، فليست قيمة الأيام بساعاتها، ولا قدر الليالي بطولها وعددها، وإنما قيمة الأوقات بما أودعه الله فيها من المكارم، وخصها من الفضائل.