الصارم المسلوم على شاتم الرسول (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

الصارم المسلوم على شاتم الرسول (2)

عباد الله: ذكر أن الجن الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم كانت تقصد من سبه من الجن الكفار فتقتله، وذلك قبل الهجرة، وقبل الإذن في القتال لها وللإنس، فيقرها صلى الله عليه وسلم على ذلك، ويشكر ذلك لها.

روي عن ابن عباس أنه قال: هتف هاتف من الجن، على جبل أبي قبيس، فقال:

قبَّح الله رأيكم آل فــــهر *** ما أدق العقول والأحـلام

حين تُغضِى لمن يعيب علــيها *** دينَ آبائها الحُماة الكـرام

حالٍِفُ الجن جنِ بُصرى عليكم *** ورجالِ النخيل والآطــام

يوشك الخيل أن تروها نـهارا *** تقتل القوم في حرام تهــام

ضاربا ضربة تكون نكــالا *** ورواحا من كُربة واغتنــام

قال ابن عباس: فأصبح هذا الشعر حديثا لأهل مكة، يتناشدونه بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا شيطان، يكلم الناس في الأوثان، يقال له: مسعر، والله مخزيه، فمكثوا ثلاثة أيام، فإذا هاتف يهتف على الجبل يقول:

نحن قتلنا في ثلاث مســعرا *** إذ سفه الحق وسن المنكرا

قنَّعته سيفا حساما مبــترا *** بشتمه نبينا المطــــهرا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هذا عفريت من الجن، آمن بي سميته: عبدَ الله، أخبرني أنه في طلب مسعر، منذ ثلاثة أيام»، فقال علي: جزاه الله خيرا يا رسول الله.

عباد الله: إن الله تعالى فرض علينا تعزير رسوله صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وتعزيره: نصره ومنعه، وتوقيره: ِإجلاله وتعظيمه، وذلك يوجب صون عرضه بكل طريق، بل ذلك أول درجات التعزير والتوقير، فلا يجوز أن نصالح من يُسمعنا شتم نبينا صلى الله عليه وسلم ويظهر ذلك، فإن ذلك ترك للتعزير والتوقير، بل الواجب علينا أن نكفهم عن ذلك، ونزجرهم عنه بكل طريق. وهذا من نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم  المفروض علينا، ولأنه من أعظم الجهاد في سبيل الله، قال سبحانه ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ بل نصر آحاد المسلمين واجب، بقوله صلى الله عليه وسلم: «أنصر أخاك ظالما أو مظلوما» فكيف لا ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ومن أعظم النصر، حماية عرضه ممن يؤذيه.

وسب النبي صلى الله عليه وسلم يتعلق به عدة حقوق:

حق الله تعالى؛ حيث كفر الساب برسوله صلى الله عليه وسلم ، وعادى أفضل أوليائه وبارزه بالمحاربة، وحيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة، وحيث طعن في ألوهيته؛ فإن الطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم ، طعن في المرسِل، وتكذيبَه تكذيب لله تبارك وتعالى، وإنكارٌ لكلامه وأمره وخبره، وكثير من صفاته.

ويتعلق به حق رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث خصوصِ نفسه، فإن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه، أكثرُ مما يؤذيه أخذ ماله، وأكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظمَ من الجُرح ونحوه، خصوصا من يجب عليه أن يَظهر للناس كمالَ عرضه، وعلو قدره، لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة، فإن هتك عرضه قد يكون أعظمَ عنده من قتله، فإن قتله لا يقدح عند الناس في نبوته ورسالته، وعلوِ قدره، كما أن موته لا يقدح في ذلك، بخلاف الوقيعة في عرضه؛ فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النفرة عنه، وسوءِ الظن به، ما يفسد عليهم إيمانهم، ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة.

ويتعلق به حق جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم، فإن قيام أمرِ دنياهم وآخرتهم به، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة، بوساطته وسفارته، فالسب له صلى الله عليه وسلم  أعظمُ عندهم من سب أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسب جميعهم، كما أنه أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وأبائهم والناس أجمعين. فعلم بذلك، أن السب فيه من الأذى لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولعباده المؤمنين، ما ليس في الكفر والمحاربة.

عباد الله: يقول سبحانه ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ في هذا دليل على أن شفاء الصدور من ألم السب والاستهزاء بمقام نبينا صلى الله عليه وسلم ، وذهاب الغيظ الحاصل في صدور المؤمنين من ذلك، أمر مقصود للشارع، مطلوب الحصول، ولا ريب أن من أظهر سب الرسول صلى الله عليه وسلم وشتمه، فإنه يُغيظ المؤمنين ويؤلمهم، أكثر مما لو سفك دماء بعضهم، وأخذ أموالهم، فإن هذا يثير الغضب لله، والحمية له ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا القدر لا يهيج في قلب المؤمن غيظا أعظمُ منه، بل المؤمن المسدد لا يغضب هذا الغضب إلا لله.

ولا ريب أن من أكثر من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو نظم القصائد في سبه، فإن جرمه أغلظُ من جرم من سبه بالكلمة الواحدة المنثورة، بحيث يجب أن تكون إقامة الحد عليه أوكد، والانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب، وأن المقل لو كان أهلا أن يعفى عنه، لم يكن هذا أهلا لذلك.

عباد الله: إن تطهير الأرض من إظهار سب رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب بحسب الإمكان، لأنه من تمام ظهور دين الله، وعلو كلمة الله، وكون الدين كله لله، فحيث ما ظهر سبه  صلى الله عليه وسلم ولم ينتقم ممن فعل ذلك، لم يكن الدين ظاهراً، ولا كلمة الله عالية، وهذا كما يجب تطهيرها من الزناة والسراق وقطاع الطريق بحسب الإمكان.

واعلموا يا عباد الله: أن الله تعالى منتقم لرسوله صلى الله عليه وسلم  ممن طعن عليه وسبه، ومظهر لدينه ولكذب الكاذب، إذ لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : "حدثنا أعداد من المسلمين العدول، أهل الفقه والخبرة، عما جربوه مرات متعددة، في حصر الحصون والمدائن، التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر، وهو ممتنع علينا، حتى نكاد نيأس، إذ تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعةِ في عرضه، فعُجِّلنا فتحه وتيسر، ولم يكد يتأخر إلا يوما أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيها ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح، إذا سمعناهم يقعون فيه صلى الله عليه وسلم ، مع امتلاء القلوب غيظا بما قالوه فيه أ.هـ

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: إن الإفساد نوعان: إفساد باليد، وإفساد باللسان، والإفساد باللسان في باب الدين، قد يكون أنكى من الإفساد باليد، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتل من كان يحاربه باللسان مع استبقائه بعض من حاربه باليد، خصوصا محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته، فإنها إنما تمكن باللسان، فهذا الساب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، أولى باسم المحارب المفسد من قاطع الطريق.

  وإن الله سبحانه أوجب لنبينا صلى الله عليه وسلم على القلب والجوارح واللسان، حقوقا زائدة على مجرد التصديق بنبوته، وحرم سبحانه لحرمة رسوله صلى الله عليه وسلم مما يباح أن يفعل مع غيره، أمورا زائدة على مجرد التكذيب بنبوته، فمن ذلك:

أن أمر بالصلاة والسلام عليه، بعد أن أخبر أنه وملائكته يصلون عليه.

وأخبر سبحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن حقه أن يؤثره العطشان بالماء، والجائع بالطعام، وأنه يجب أن يُوقَّى بالأنفس والأموال كما قال سبحانه ﴿مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ﴾.

وأن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق كما دل على ذلك قوله سبحانه ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾. وكما في الصحيح من قول عمر: يا رسول الله، لأنت أحبُ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال: «لا يا عمر حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك»، قال: فأنت والله يا رسول الله أحبُّ إلي من نفسي، قال: «الآن يا عمر». وقال صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين».

وخصه في المخاطبة بما يليق به قال سبحانه ﴿لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً﴾ فنهى أن يقولوا: يا محمد، أو يا أبا القاسم، ولكن يقولوا: يا رسول الله، يا نبي الله. حتى إن الله تعالى أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحدا من الأنبياء؛ فلم يَدْعُه باسمه في القرآن قط، بل يقول ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ مع أنه سبحانه قد قال ﴿يَاآدَمُ﴾ و ﴿يَانُوحُ﴾ و ﴿يَاإِبْرَاهِيمُ﴾ و ﴿يَامُوسَى﴾ و ﴿يَاعِيسَى﴾.

وحرم سبحانه التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم بالكلام حتى يأذن، وحرم رفع الصوت فوق صوته، وأن يُجهر له بالكلام كما يَجهرُ الرجلُ للرجل، وأخبر أن ذلك سببَ حُبُوط العمل.

وحرم على الأمة أن يؤذوه بما هو مباح أن يعامل به بعضهم بعضا، تمييزا له، مثل نكاح أزواجه من بعده، فقال تعالى ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً﴾ .

وأنه سبحانه فرق بين أذاه بالقول وأذى المؤمنين فقال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾.

وأنه سبحانه رفع له ذكره، فلا يذكر إلا معه،ولا يصح للأمة خطبة ولا تشهد، حتى يشهدوا أنه عبده ورسوله،وأوجب ذكره في كل خطبة، وفي الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام، وفي الأذان الذي هو شعار الإسلام، وفي الصلاة التي هي عماد الدين.

فإذا علم هذا يا عباد الله: فإن سابه ومنتقصه، قد ناقض الإيمان به، وناقض تعزيره وتوقيره، وناقض رفع ذكره، وناقض تشريفه في الدعاء والخطاب، بل قابل أفضل الخلق، بما لا يقابل به أشر الخلق.