الصارم المسلوم على شاتم الرسول (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الصارم المسلوم على شاتم الرسول (1)

الحمد لله الهادي النصير، فنعم النصير ونعم الهاد، الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويبين له سبل الرشاد، كما هدى الذين أمنوا لما اختلف فيه من الحق وجمع لهم الهدى والسداد، والذي ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، كما وعده في كتابه وهو الصادق الذي لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تقيم وجه صاحبها للدين حنيفا وتبرئه من الإلحاد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل المرسلين وأكرم العباد، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره أهل الشرك والعناد، ورفع له ذكره فلا يذكر إلا معه، وكبت محاده، وأهلك مشاقه، وكفاه المستهزئين به ذوي الأحقاد، وبتر شانئه ولعن مؤذيه في الدنيا والآخرة، وجعل هوانه بالمرصاد، واختصه من بين إخوانه المرسلين بخصائص تفوق التعداد، فله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود ولواءُ الحمد الذي تحته كل حمَّاد، صلى الله عليه وعلى أله أفضل الصلوات وأعلاها، وأكملها وأنماها، كما يحب سبحانه أن يصلى عليه، وكما ينبغي أن يصلى على سيد البشر، والسلام على النبي ورحمة الله وبركاته، أفضل تحية وأحسنها وأولاها، وأبركها وأطيبها وأزكاها، صلاة وسلاما دائمين إلى يوم التناد أما بعد:

عباد الله: سورة ما أجلها من سورة، وأغزر فوائدها على اختصارها، هي أقصر سور القرآن، إنها سورة الكوثر، حقيقة معناها تعلم من آخرها، فإنه سبحانه وتعالى قال: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ﴾ خرج (م) من حديث أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: «أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾، ثم قال أتدرون ما الكوثر؟» فقلنا الله ورسوله أعلم. قال: «فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيُختلج العبد منهم، فأقول رب إنه من أمتي، فيقول ما تدري ما أحدثوا بعدك».

قال ابن عباس: الكوثر: إنما هو الخير الكثير، الذي أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان أقل أهل الجنة من له فيها مثل الدنيا عشر مرات، فما الظن يا عباد الله بما لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما أعده الله له فيها.

ثم قال الله ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ أمره سبحانه أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما الصلاة والنسك، الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عدته وأمره، وفضله وخُلْفِه، وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فكان كثيرَ الصلاة لربه، كثيرَ النحر، حتى نحر بيده في حجة الوداع، ثلاثا وستين بدنة.

ثم قال سبحانه ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾ فبتر سبحانه شانئَ رسوله صلى الله عليه وسلم من كل خير، بتر ذكره وأهله وماله، فيخسر ذلك في الآخرة، وبتر حياته فلا ينتفع بها، ولا يتزود فيها صالحا لمعاده، ويبتر قلبه فلا يعي الخير، ولا يؤهله لمعرفته ومحبته، والإيمان برسله، ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرا ولا عونا، ويبتره من جميع القرب والأعمال الصالحة، فلا يذوق لها طعما، ولا يجد لها حلاوة، وإن باشرها بظاهره، فقلبه شارد عنها، وهذا جزاء شَنَأ بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ورده؛ لأجل هواه، أو متبوعه، أو شيخه، أو أميره، أو كبيره.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغنا والقصائد والدفوف، إذا سمعوا القرآن يتلى ويقرأ في مجالسهم، استطالوا ذلك واستثقلوه، فأي شنآن أعظم من هذا" أ. هـ

وقوله تعالى ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾ أي إن مبغضك يا محمد، ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين، هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع ذكره، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة: نزلت في العاص بن وائل السهمي ، حيث دخل النبي صلى الله عليه وسلم من باب الصفا وخرج من باب المروة، فاستقبله العاص بن وائل، فرجع العاص إلى قريش، فقالت له: من استقبلك يا أبا عمرو آنفا؟ قال ذلك الأبتر، يريد به النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه السورة، يعني عدوك العاص بن وائل هو الأبتر من الخير.

وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان قال: كان العاص بن وائل إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يقول: دعوه فإنه رجل أبتر؛ لا عقب له، فإذا هلك انقطع ذكره، فأنزل الله هذه السورة.

وقال ابن عباس وعكرمة: نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من كفار قريش، قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم؟ قال نعم، قالوا: ألا ترى إلى هذا الصابئ المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية؟ قال أنتم خير منه، فأنزلت ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾ أنزلت عليه ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً﴾ وقيل نزلت في أبي لَهَبٍ وذلك حين مات ابن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أبو لهب إلى المشركين فقال: بُتر محمد الليلة، فأنزل الله ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾ وقيل: نزلت في عقبة بن أبي معيط، وقيل نزلت في أبي جهل.

قال العلامة ابن القيم : "إنما لم يسمه سبحانه باسمه؛ ليتناول كل من كان في مثل حاله "أ.هـ

عباد الله: قيل لأبي بكر بن عياش: إن بالمسجد قوما يجلسون ويُجلس إليهم، فقال: من جلس للناس جلس الناس إليه، ولكن أهل سنة النبي صلى الله عليه وسلم يموتون ويحيى ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم، لأن أهل السنة أحيوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيب من قول الله ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ وأهل البدعة شنئوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيب من قوله سبحانه ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾.

فالحذر الحذر يا عبد الله من أن تكره شيئا مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أو ترده لأجل هواك، أو انتصارا لمذهبك، أو لشيخك، أو لأجل اشتغالك بالشهوات، أو بالدنيا، فإن الله سبحانه لم يوجب على أحد طاعة أحد، إلا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والأخذ بما جاء به.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: إن الله سبحانه هدانا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، وآتانا ببركة رسالته، ويمن سفارته، خيرَ الدنيا والآخرة، وكان من ربه بالمنزلة العليا، التي تقاصرت العقول والألسنة عن معرفتها ونعتها، فاقتضاني ما حدث من سب النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الصحف الغربية، إلى هذا الحديث، وذلك أدنى ما له علينا، بل هو ما أوجب الله من تعزيره وتوقيره ونصرته بكل طريق، وإيثاره بالنفس والمال في كل موطن، وحفظه وحمايته من كل موذ، وإن كان الله تعالى قد أغنى رسوله صلى الله عليه وسلم عن نصرة الخلق، ولكن ليبلو بعضكم ببعض، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، ليحق الجزاء على الأعمال، كما سبق في أم الكتاب.

عباد الله: اعلموا أن الله تعالى منتقم لرسوله صلى الله عليه وسلم ممن طعن عليه وسبه، ومظهر لدينه ولكذب الكاذب، إذ لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد. ومن سنة الله أن من لم يستطع المؤمنون أن يعذبوه، من الذين يؤذون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنه سبحانه ينتقم منه لرسوله صلى الله عليه وسلم ، ويكفيه إياه، كما قال سبحانه ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ﴾ والقصة في إهلاك الله واحدا واحدا من هؤلاء المستهزئين من رؤوس قريش معلومة.

وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، وكلاهما لم يسلم، لكن قيصر أكرم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكرم رسوله، فثبت ملكه، وأما كسرى، فمزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم واستهزأ به، فقتله الله بعد قليل، ومزق ملكه كل ممزق، ولم يبق للأكاسرة ملك، وهذا والله أعلم تحقيق لقول الله ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾ فكل من شنأه وأبغضه وعاداه، فإن الله يقطع دابره، ويمحق أثره، ومن الكلام السائر "لحوم العلماء مسمومة" فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام ؟!

فهل من قائم يقوم لله بحقه، يُسب رسول رب البرية، يسب الذي فاض على العالم برسالته، أعظم من نور الشمس والقمر، وأنفع للعباد من الغيث الكثير المنهمر، نور استنارت منه المشارق والمغارب والأقطار، ملأ الله به القلوب علما ويقينا وإيمانا، وشمل البسيطة عدلا ورحمة وخيرا وحنانا، طهر الله به الأخلاق من جميع الرذائل، واستُكملت به جميع الفضائل، واستبدل به المؤمنون بعد الشرك إخلاصا لله وتوحيدا، وبعد الانحراف عن الحق هداية واستقامة وتوفيقا، وبعد الفتن والافتراق ألفة ومحبة واعتصاما، وبعد القطيعة والعقوق رحمة وصلة وبرا، وبعد الظلم والجور وسوء المعاملات عدلا ووفاء. نور كسب به العباد بعد الفساد صلاحا، وبعد الشقاء والهلاك فلاحا ونجاحا. نور نُشر عدلُه ورحمته على الأقطار، فصلحت به الأحوال، وكثرت الخيرات وانجلت به الشرور والهلكات. لم يزل ذلك النور سراجا وهاجا، إذ أهله به متمسكون، وبنوره مقتدون. فلما استبدلوا بهذا النور الظلمات، وانفصلوا أو كادوا من حبله المتين، تقاطعوا وتدابروا، تباغضوا وتنافروا، وذهبت عنهم الغيرة الدينية، وتباينت الأغراض، وكثرت الأضرار، جاءهم ما كانوا به يوعدون، من العقوبات العاجلة، تكالبت عليهم الأعداء، وتشتت الأصدقاء، فلم يزالوا في نزول، ماداموا معرضين عن سنة سيد المرسلين.