رقة القلوب

بسم الله الرحمن الرحيم

رقة القلوب

القلب هو أشرف ما في الإنسان، ومحل العلم منه والعرفان، فإذا صلح قلب المرء استنارت بصيرته، وطابت سريرته، وخلصت نيته، وعظمت في الله معرفته، وامتلأ من تعظيم الله وهيبته، وخوفه ومحبته، ورجائه وخشيته؛ ولهذا بعثت إليه الرسل من الرحمن، وخوطب بالقرآن؛ لإخلاص التوحيد وتحقيق الإيمان، وكان أشرف العطايا وأجل المنح، والحافظ للجسد إذا صلح، فسبحان مقلب القلوب، الذي يحول بين المرء وقلبه، ويعلم ما ينطوي عليه من طاعته وأسباب حبه؛ ولذا كانت أكثر يمين النبي صلى الله عليه وسلم : «لا، ومقلب القلوب»، ومن أكثر دعائه: «يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك».

والله تعالى لا ينظر إلى الصور والهيئات، ولا إلى الأجساد والثروات، ولكنه ينظر إلى القلوب والطاعات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في مسلم «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»

فالقلب موضع نظر الرب سبحانه وتعالى، وبصلاحه تستقيم الجوارح، وتصلح الأعمال، وتسدد الأقوال، وما ذاك إلا لأنه سيّد الأعضاء كما قال ابن القيم رحمه الله: "إن القلب للأعضاء كالملك المتصرف في الجنود التي تصدر كلها عن أمره، فتكتسب منه الاستقامة أو الزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يَحُله" .

إذَا القلوب استرسلت في غيها *** كانت بليّتها على الأجسام

وفي البخاري قال صلى الله عليه وسلم «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» .

وسلامة القلب علامة من علامات النجاة يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؛ لذلك كان الاهتمام بتصحيح القلب أوّل ما يعتمد عليه السالكون، والنظر في أمراضه وعلاجه أهمّ ما تنسك به الناسكون؛ حتى يلاقوا ربهم به سليما .

عباد الله: علم إبليس عدوّ الله مكانة القلب، فأجلب عليه بخيله ورجله، وأقبل عليه بالوساوس تارة، وبالشهوات والشبهات أخرى، فزين للنفس من الأحوال والأعمال، ما يصدها عن طريق الله المتعال، ونصب من الحبائل والمصائد ما يجعل به العبد عن الله شارد، فتغيرت القلوب وتبدّلت، وانصرفت عن الله وتحولت، حتى انقسم الناس إلى: صاحب قلب سليم، مقبل على الله ومرضاته، وصاحب قلب مريض، يصارع نفسه وشيطانه، وصاحب قلب ميت، لا يعرف ربّه ولا يؤدّي حقه ولا يستجيب لداعيه.

إذا قسا القلب لم تنفعه موعظة *** كالأرض إن سبخت لم ينفع المطر

عباد الله: ما رقّ قلبٌ لله عز وجل إلا كان صاحبه سابقًا إلى الخيرات، مشمّرًا في الطاعات والقربات، وما رق قلب لله إلا وجدتَ صاحبه إذا ذكِّر بالله تذكّر وإذا بصِّر به تبصّر، وما رقّ قلب لله إلا كان أبعد ما يكون عن معاصي الله.

وإن لرقّة القلب علامات، فمن ذلك أن لا يفتر صاحبه عن ذكر ربّه، فإن ذِكرَ الله تطمئن به القلوب، فتجلو عن القلوب صداها، وتذكرها بحقوق مولاها، وتحرضها على شكر نعماها، والتوبة إلى الله من خطاياها ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ وفي القلب فاقه لا يسدّها إلا ذكر الله، فيكون صاحبه غنيًا بلا مال، عزيزًا بلا عشيرة، مهيبًا بلا سلطان، قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد، أشكو قسوة قلبي! قال: أذِبه بذكر الله.

ومن علامات رقّة القلب أن يكون صاحبه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقرّة عينه وسرور قلبه.

ومن علامات رقه القلب أن صاحبه إذا فاته ورده أو طاعة من الطاعات، وجد لذلك ألمًا أعظم من تألم الحريص بفوات ماله ودنياه.

ومنها أن صاحبه يخلو بربّه، فيتضرع إليه ويدعوه، ويتلذّذ بين يديه سبحانه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: اطلب قلبك في مواطن ثلاثة: عند سماع القرآن، وعند مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده فسَل الله قلبًا، فإنه لا قلب لك.

إذا أرسل الله سبحانه على القلب رحمة فإنها تتغلغل فيه، وتحوّل ذلك القلب من القسوة إلى الرقة، ومن الغفلة إلى اليقظة، ومن البعد عن الله إلى القرب منه سبحانه، فبعدما كان العبد جريئًا على التفريط في جنب الله، متساهلاً بأوامره، فإذا به يتغير حاله، وتحسن عاقبته ومآله، يعرف لله حقوقه، وينفر من عصيانه، ويخشى عقابه، ويرجو ثوابه.

أيها المسلمون: إن رقه القلب هي النعمة العظيمة، التي ما حُرمها أحد إلا كان موعودًا بعذاب الله، قال تعالى ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ﴾ .

الخطبة الثانية

فإنّ لرقه القلب أسبابًا وسبلاً، أولها الإيمان بالله، فما رقّ قلب بسبب أعظم من الإيمان بالله، ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته، إلا رقّ قلبه، وصفت سريرته، فلا تأتيه الآية من الله، والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال بلسان حاله ومقاله: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.

ومن أسباب رقه القلب، النظر والتدبر في كتاب الله وآياته ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ فالمؤمن المتدبر لآيات الله، هو أرق الناس قلبا، وأنقاهم نفسًا، وما قرأ العبد هذه الآيات، متفكرًا متدبرًا، إلا والعَين تدمع، والقلب يخشع، والنفس تخضع، وإذا بأرض هذا القلب، تنقلب خصبة غضّة طرية، تنبت السكينة والخضوع لله رب العالمين ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ .

إن هذا القرآن موعظة رب العالمين، وكلام إله الأولين والآخرين، فما قرأه عبد يرجو الهداية إلا وتيسرت له أسبابها، واتضحت له طرائقها. هذا القرآن الذي حوّل قلوب الصحابة من الظلمة إلى الإشراق، ومن الغلظة إلى الرقة، فها هو عمر بن الخطاب، يسمع آيات من سورة طه، فتملأ قلبه القاسي رقة وخشية، وها هو الطفيل بن عمرو، يسمع آيات من الذكر الحكيم، فيسارع إلى هذا الدين، مؤمنًا مستجيبًا لأوامره، داعيًا قومه إليه، وهذا أسيد بن الحضير، جاء ليمنع مصعب من الدعوة في المدينة، فيشير عليه مصعب بسماع بعض الآيات، فما هي إلا آيات تتلى، وإذا بها تسري إلى القلب سريان النور في الظلماء، حتى يسلم أسيد، ويتحول من محارب للإسلام إلى داع إليه.

ومن الأسباب المعينة على رقة القلب تذكّر الآخرة وأهوالها، والجنة ونعيمها، والنار وجحيمها، يتذكر العبد أنه إلى الله صائر، وأنه ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار، إلا الجنة أو النار. فإذا تذكر ذلك كان كالحادي الذي يسوق النفوس إلى ربها، ويرقق القلوب بعد قسوتها واغترابها، ويردعها عن غيها.

ومن أعظم أسباب لين القلوب زيارة المرضى، ومخالطة المساكين والفقراء والضعفاء، والاعتبار بحال أهل البلاء. ولهذا قال تعالى ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ .

معشر المؤمنين: وأسباب لين القلوب ورقتها كثيرة، وهي بحمد الله محبوبة ميسورة، ومن أهمها: أكل الحلال، والتقرب إلى الله بنوافل الأعمال، والإلحاح على الله بالدعاء، والعطف على المساكين والأيتام والضعفاء، ومجالسة أهل العلم والإيمان.

فاتقوا الله عباد الله، وتحروا ما يلين قلوبكم ويحييها، واحذروا من كل ما من شأنه أن يظلم بصيرتها ويقسيها؛ فإنكم إلى ربكم منقلبون، وبأعمالكم مجزيون، وعلى تفريطكم نادمون: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ .